الصدق في الدين ومع النفس وخطر المصدقات الشعبية

الصدق في الدين ومع النفس وخطر المصدقات الشعبية

نشر بجريدة الوطن بتاريخ 25/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في أيامنا هذه، حلت ضخامة النشاط الصناعي والتجاري وتشعبه في أرجاء الدنيا، محل المذاهب والمعتقدات وبات اعتمادهـا في رواج السلـع وزيادة المبيعـات على «الإعلان» الحديث الذي بلغ الغاية في «الحيل» و«الأساليب» و«التجميل» و«التفنين». وغزت وسائله السماء والأرض، واقتحمت على آلاف الملايين بيوتهم ومؤسساتهم ومعاهدهم ومدارسهم وجدران الطرق والميادين والنواصي، وملأت الإذاعة والتليفزيون، لا تبالى في القيام بمساعيها وحيلها لاجتذاب من تريد، بحظ ما تبديه وتعرضه وتحسنه وتروجه من الصدق والأمانة ومخافة الله عز وجل!

ولم تقف سياسة الناس في أمور السلم أو الحرب، بعيدة عن أن تصب في نهر حياة الآدميين عوادم ضارة على الصدق والإخلاص، فلـم يترك المكر والخديعة والمكيدة والدسيسة إلاّ هامشاً ضيقاً محدوداً للصدق والأمانة، حتى بات «الصدق مع النفس» مطلباً يكاد يكون مهجوراً الآن في دنيا الناس!

وأخطر ما يصيب «الصدق» في المجتمعات، ما يسمى بالمصدقات الشعبية التي تتسلل عبر الأزمان ومن زمن سحيق، إلى نفوس الناس، عبر روافد متعددة، لتتراكم تراكماً كمياً يتحول مع الأيام إلى ما يشبه الكتلة الصماء، خصوصاً إذا ما التصقت بالأديان ودخلت ضمن «حزمة» التقاليد الدينية لهذا الدين أو ذاك بما في ذلك المذاهب والفرق وما أشبه.. هنالك تتحوصل المصدقات الشعبية وتتترس وتنشب في نفوس الناس حتى لتكاد تزاحم العقيدة ذاتها، فتأخذ الناس وهي تتشح بالصدق! بعيداً عن أي صدق!!! ومع ذلك، وهذه قمة المفارقة تكون الدستور الخفي الذي يتحكم في تصرفات وفي سلوك الناس!!

والحقيقة أن «المصدقات» العارية في الواقع من الصدق، عديدة متنوعـة، لـم تترك مجالاً مـن الأمكنة أو المناسبات أو التواريخ أو غيرها إلاّ تسللت إليه.. هي من الكثرة والتنوع بحيث يصعب حصرها، وأصعب من ذلك تنقية الدين أو غيره منها، لأنها تتحوصل مع الزمن وتتحكم في وعى الناس وتتحول إلى «عقيدة» قد يتباعد أثر بعضها تلقائياً باتساع الثقافة ونمو الوعى أو تواتر إخفاق «مصدّقة ما» في إثبات اتساقها مع مـا اعتنقـه الناس، إلاّ أنه لا جدوى فيما يبدو من مقاومة هذه «المصدقات؟!» مقاومـة مباشـرة بالمنع أو النهى أو الحظر أو التحريم، لأن ذلك يشوش ضمائر عامة الناس، وربما يدعوهم كما حدث مراراً! لشيوع «المصدقة» (الكاذبة) والإصرار على الجري وراءها واتباعها، ويفتح أبواباً لا تنغلق لتصدر المتعصبين نفياً وإثباتاً ثم ينتهي الأمر إلى نقيض «التنوير» المنشود، وتتحول «المصدقات الشعبية» إلى مرتبة المقدسات لدى سواد الناس!

ومع أن انتشار العلم، وشيوع الأخذ بأسبابه، يحاصر محاصرة تلقائيـة وغير مباشـرة «المصدقات الشعبية» (الكاذبة) فإنها تدخل وتستمر في الدخول برغم اتساع العلم من أبواب أخرى لا تكف العناصر المحبذة لها عن سلوك أي سبيل للتأثير لصالحها على عامة الناس.. فالصناعات والتجارات والحرف، والترويج لهـا أو الإعلان عنها يستغل ومن قديم الزمن هذه «المصدقات الشعبية» للوصول إلى الهدف المنشود، سواء بخلق مناسبات هذه «المصدقات» وأماكنها دورياً، أو بتشجيع هذه «المناسبات»، وتغذيتها بالأدوات أو السلع والوسائل والمحال وأماكن المبيت والاحتفال والتسلية والأسواق، والإعلان عنها والدعاية لها، واتخاذها سبيلاً لجذب الناس ورواج أحوال من يتكسبون من حول ذيوع وانتشار «المصدقة» ومناسبتها، وكثيراً ما نشأت الأحياء والمدن، والمعابد والمزارات، وطرق المواصلات بفضل شيوع بعض المصدقات وتجمعات معتقديها وضخامة ما ينفقونه فيها ومن أجلها بانتظام، لا يبخلون عليها بما ربما بخلوا به على أهل بيوتهم وأمس حاجاتهم!!!

مـع تراجع الثقافة، وانحسار العقل تزحف «المصدقات الشعبية»، على ما فيها من مجافاة الصدق كزحف الرمال المتحركة، فتملأ وعى ووجدان الناس بترهات تشدها إلى أسفل، وتطفئ نور الله في قلوبها، وتخبو بالعقل، وتقتل طاقات الأمل في أن يخرج الناس من وهدة ما هم فيه من شتات وضياع وانطفاء، وتجعل صناعة الجهل أسلوباً وغاية، فتفقد الأمة روحها مع عقلها، وتضيع في شتات ليل بهيم حالك السواد كئيب القتامة!!!

أينما نظر الناظر المتأمل، في تواريخ وأحوال الناس، الماضية والحاضرة تطالعه مظاهر لا تحصى لهذه «المصدقات الشعبية» والأوهام التي تتسع من حولها، آخذة الناس بعيداً بعيداً عن «الصدق» نفسه، وعن الفهم والعقل، وعن اتخاذ الأسباب، يغذى ذلك جهل وجهالة المتلقين، ومنهم للأسف علماء أفذاذ في تخصصاتهم، وسذاجة أو سوء نية أو غرض أو نفع الداعين المحبذين لرواج وترويج هذه «المصدقات»، التي بقدر انتشارها وذيوعها وتمكنها في وعى وطبائع الناس، بقدر ما تبتعد بهم عن الائتلاف والتناغم مع قانون العصر الذي لم يعد فيه مكان للتهاويم والخزعبلات!!!

والنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، إما لجهلها بمضرّته لها، أو لفساد قصدها، أو لمجموعهما معاً. فالجهل والظلم أصل كل شر، والعلم والعدل أصل كل خير.

الواقع أن الآدمي قد يتلذذ بنشاطه الفكري المجرد، كما قد يتلذذ عادة بالأطعمة والأشربة على غير جوع أو عطش، أو بالملابس على غير خوف من برد أو حر، أو بالحديث لغير هدف إلاّ الأنس والإيناس، أو بإشباع غير ذلك من الغرائز فيما يجرى في الواقع بعيداً عن إيمان الآدمي وإنما باستعمال ملكاته الفكرية أو المادية في كل ما يظن أو يعتقد أنه نافع أو جالب للذة أو الإمتاع!

وينبغي أن نتذكر أننا جميعاً، نحن وآباءنا، قد بدأنا خطانا الأولى في الدين لا من طريق التفطن والتعقل، ولكن عن طريق التلقين والتقليد. لأننا جميعاً إلاّ القلة القليلة جداً قد ولدنا في الدين الذي عليه الأسرة، وعرفناه ونحن أطفال من رؤية الحركات والمناسك وسماع العبارات التي تتكرر بغير انقطاع كشيء مسلم به ضروري في محيطنا لا يخالطه أي تردد أو إشكال. هذه المعرفة الأولية للدين معرفة يصحبها منذ بداية حياتنا خوف كثير أو قليل من الوقوع في الخطأ أو الذنب والعقوبة المترتبة عليهما عاجلاً أو آجلاً، كما يصحب ذلك أيضاً معرفة ما بحلاوة الطاعة والاستقامة وحلاوة الراحة الداخلية لاستحسان الآخرين ورضائهم عن مسلكنا، يكفينا: في تلك الخطوات الأولى، لتوثيق إيماننا بالدين، تصديق ما أثر عن الأولين من مشاهداتهم للمعجزات والخوارق والكرامات الماضية، لأن مصدقات الأديان بعامة عبر تاريخها الطويل، تشكل جزءاً لا يتجزأ من الدين في عيون متبعيه، ويرونه هو هو نفس الدين برغم اتساعه عبر أجيال مع اتساع المكان والزمان ونمو المعتقدات وتكاثر الآيات والبينات في نظر الملايين من الأحياء والراحلين مما لا يمكن أن يقاومه ويغيره أو يصححه تفكير الأفراد وتأملاتهم أياً كان نصيب ذلك من المعقولية والعمق.

زر الذهاب إلى الأعلى