الشمول الجنائي
بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
ما معنى أن تكون العدالة متاحة للجميع، لا لمن يعرف الطريق إليها فقط؟ وهل تكفي النصوص القانونية المكتوبة لضمان الحماية الفعلية للإنسان، أم أن المسافة بين القانون النظري والعدالة الملموسة تحتاج إلى جسور أعمق وأوسع؟ لماذا يشعر البعض، رغم وجودهم في قلب الدولة ومؤسساتها، بأنهم في الهامش؟ ولماذا تظل فئات كاملة من المجتمع عاجزة عن اللجوء إلى القانون، لا لغياب النص، بل لأن الطريق إليه مسدود بالجهل أو الفقر أو الخوف؟ تلك التساؤلات تقودنا إلى مفهوم جوهري، لم يعد من المقبول تجاهله: الشمول الجنائي.
الشمول الجنائي لا يعني أن الجريمة ستختفي، ولا يعد بأن العقوبة ستطال كل من يستحقها، لكنه يتجاوز ذلك إلى قيمة أكثر عمقًا: أن يشعر كل إنسان، أياً كانت طبقته أو وعيه أو وضعه، بأنه مشمول في المظلة القانونية، وأن العدالة لا تفرق بين من يملك الوعي والمعرفة وبين من جهل السبيل إليها. العدالة لا تكتفي بوجود النص، بل تتحقق حين يصبح النص في متناول الجميع، ومتى ما كان الوصول إليه ممكناً لمن لا يملك إلا ألمه وظلمه.
تمامًا كما لا يعني الشمول المالي أن الفقير أصبح غنيًا، بل يعني ببساطة أنه أصبح جزءًا من النظام المصرفي؛ له رقم وحساب وهوية، فإن الشمول الجنائي لا يعني أن الظلم اختفى، بل أن أحدًا لا يُترك بلا ملاذ قانوني، ولا يُقصى لأنه لا يعرف حقوقه أو يجهل كيف يطلبها. الشمول في جوهره اعتراف، واعتراف القانون بكل فرد ككائن ذي كرامة، لا يسقط عنها لمجرد ضعفه أو جهله.
وتتجلى أهمية الشمول الجنائي حين نتأمل أحوال من يعيشون في هوامش النظام القانوني، كعامل بسيط لا يعرف كيف يشتكي، أو امرأة معنّفة تخشى الإفصاح، أو طفل يُستغل ولا يدرك طبيعة ما يتعرض له، أو مسنّ تُنهب ممتلكاته في صمت، أو مهاجر لا يتقن لغة القانون في وطنه الجديد، أو ضحية جريمة إلكترونية لا يثق في قدرة القانون على حمايته. كل هؤلاء ليسوا خارج دائرة الخطر، لكنهم خارج دائرة الوصول.
إن العدالة لا تبدأ من قاعة المحكمة، بل تبدأ من قدرة الإنسان على الوصول إليها. الإعلان بأن “القانون يحمي الجميع” لا يكفي، إن لم يكن مقرونًا بضمان أن الجميع يمكنه اختبار هذه الحماية فعليًا، دون أن يتعثر في دروب البيروقراطية، أو يُربك بفهم النصوص، أو يُهزم نفسيًا في الطريق. العدالة لا تتحقق فقط عندما يصدر حكم عادل، بل حين تُمنح الفرصة العادلة للوصول إليه.
ولهذا فإن مفهوم الشمول الجنائي يتطلب إعادة بناء للمنظومة، لا عبر النصوص وحدها، بل في الأدوات والإجراءات واللغة والعقلية. نحتاج إلى منظومة تعرف أن صمت الفقير لا يعني رضاه، وأن جهل المرأة بحقوقها لا يعني أن حقها سقط، وأن خوف الطفل من الكلام لا يعني أن الألم لم يقع. نحتاج إلى قانون يتحرك نحو الناس، لا ينتظرهم خلف المكاتب.
ولكي نصل إلى ذلك، لا يكفي حسن النية، بل لا بد من أدوات واقعية: دعم شامل للمساعدة القانونية المجانية، تبسيط حقيقي للغة القانونية، تدريب القضاة والضباط على التعامل مع الفئات الهشة، نشر التوعية القانونية في التعليم والإعلام، تحسين آليات التبليغ دون تعقيد أو إذلال، وضمان حماية فعالة للمبلغين عن الانتهاكات.
ولا يتوقف الشمول عند الوصول إلى العدالة، بل يجب أن يمتد إلى مرحلة تنفيذ العقوبة، فالعدالة الحقيقية لا تكتمل عند إصدار الحكم، بل تستمر في طبيعة تنفيذ العقوبة ذاتها. يجب أن يراعي التنفيذ مبدأ التفريد العقابي الإصلاحي، الذي يضع في الحسبان شخصية المحكوم عليه وظروفه، لا أن يُلقى بالجميع في سلة واحدة باسم الردع. كما يجب أن يكون التنفيذ خاليًا من العقاب الانتقامي أو التعذيبي، فلا يُنتج العقاب إلا مزيدًا من العنف والتمرد.
وفي هذا السياق، تُطرح مسألة حقوق السجناء بوصفهم جزءًا من المجتمع، لا خارجه. فالسجين لا يفقد كرامته الإنسانية بعقوبته، ولهذا يجب الاعتراف بحقوقه الأساسية، ومنها الحق في التواصل مع أسرته، لا سيما في الأعياد والمناسبات، من خلال وسائل مرئية ومباشرة تحفظ إنسانيته وإنسانية ذويه. بل إن البعض يطرح بجرأة مسألة الحقوق الزوجية للسجين المتزوج، في إطار نظام منظم وإنساني يحفظ التوازن النفسي، ويقلل من الآثار الاجتماعية للعقوبة، خاصة حين تكون طويلة الأمد.
من جهة أخرى، فإن العدالة الشاملة لا تكتمل دون النظر إلى الطرف الآخر من المعادلة: الضحايا وذووهم. فالتركيز على الجاني وحده دون رعاية من تأذى، يجعل العدالة منقوصة، بل جائرة أحيانًا. ولهذا فإن دعم الضحايا نفسيًا وقانونيًا، وتوفير برامج للعلاج والتأهيل والرعاية، أصبح ضرورة لا ترفًا، ويجب أن يكون هناك فريق مختص، نفسي-قانوني، مؤهل للتعامل مع هذه الفئة، بكفاءة وإنسانية.
ولأن العدالة تبدأ عند أول اصطدام بالمظالم، يجب أن توجد هيئة دفاع مستقلة داخل كل محكمة، ممولة من الدولة، تضمن حق التمثيل القانوني لغير القادرين، دون حاجة لتوسل أو إذلال. فالمحامي ليس أداة من أدوات الرفاهية، بل حجر الزاوية في ضمان العدالة. يجب أن يُعامل هذا الحق كحق أصيل، وأن يحظى من يمثله بقدر من التقدير والتدريب والدعم يكافئ دوره الحيوي.
في المحصلة، الشمول الجنائي ليس مسألة قانونية فحسب، بل قضية أخلاقية وإنسانية، تعكس جوهر المجتمع الذي نريد أن نكونه. هو اختبار حقيقي لمدى صدقنا حين نقول إننا نؤمن بالعدالة. فإن كنا نريد عدالة حقيقية، فلنجعلها ممكنة الوصول، كريمة التنفيذ، منصفة للطرفين، عادلة في الطريق كما هي في النتيجة. هذا هو الشمول، وهذه هي العدالة التي تستحق أن تُسمى باسمها.
والله من وراء القصد.