الشرق فنان (9)
من تراب الطريق (1111)
الشرق فنان (9)
نشر بجريدة المال الأربعاء 2/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يقول الدكتور زكى نجيب محمود:
« إن أول درس يعلمّه حكماء أسفار اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يتاح لهذا الدماغ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة، أن يدرك هذا العالَم الفسيح المعقد الذي ليس دماغ الإنسان إلاّ ذرة عابرة في أرجائه ؟ وليس معنى ذلك عند حكماء الهند أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانة متواضعة، وهو يؤدى لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات . أما إذا حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللامتناهية فما أعجزه من أداة، فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظوهر كلها دعامةً لها، والتي تتجلى في وعى الإنسان، لا بد للإنسان من وسيلة إدراكية أخرى غير هذه الحواس الظاهرة وغير هذا العقل المنطقي، ذلك أننا لا ندرك روح العالم بالتحصيل والدرس، ولا بالعبقرية الفذة وسعة الاطلاع في الكتب، وإنما الوسيلة المثلى في هذه الحالة هي نفسها وسيلة الطفل في براءته، هي الإدراك الحدسي المباشر، أو هي البصيرة النافذة إلى جوهر الحق وصميمه بغير مقدمات ولا نتائج، وما البصيرة إلاّ بصر ينثني إلى الداخل ويسد أبواب الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليشهد الإنسان حقيقة الوجود متمثلة في ذات نفسه، ذلك جوهر النفس الإنسانية ليس هو الجسم ولا هو العقل، بل ليس هو الذات الفردية، وإنما هو الوجود العميق الصامت الكامن في دخيلة أنفسنا، وذلك هو « أتمان » ـ كما يسمونه ـ أو هو روح العالم كله، هو القوة الواحدة التي هي فوق جميع القوى » .
روح الثقافة الهندية بأسرها، تقوم على دمج الفرد في الكون دمجًا يزيل الفواصل التي تميز الفرد في محيطه .
لو أُريد الشقاء لفرد ؛ كتب عليه أن يعود مرة بعد مرة ( بالتناسخ ) إلى ولادة جديدة تجعل منه فردًا .. أي تبقيه على فرديته التي تحرمه من هذا الاندماج الذي هو النعيم الأبدي.
النعيم الأبدي، هو أن يذوب الفرد في الوجود ذوبانًا لا يبقى منه من ذاته الفردية المتميزة أثرًا .. فعندئذ يعود الجزء إلى الكل الذي انفصل عنه حينًا من الدهر، فيندمج فيه، وفي هذا النعيم الأبدي.
وتلك فيما يرى الدكتور زكى، هي نظرة الفنان التي نظر بها الهندي إلى نفسه وإلى الوجود.
وبهذه الروح نفسها جاءت فلسفة الفيلسوف وعقيدة المتدين وفن الفنان . فالموسيقى الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود ليرسل روحه بعدئذ إلى الكن اللامحدود، ومن خلال الوشي والاستلهام يستوى له « الخَلْق الموسيقى » إن جاز التعبير ـ حاملاً إلى نفس السامع شحنة من التأثير، يمكن القول بأنها ترتفع بالروح إلى ما يشبه الاتحاد الصوفي بكائن عميق عظيم ساكن .
وهكذا في فن التصوير الهندي؛ فهو لا يحاول تصوير الأشياء أو محاكاتها، بل يستهدف تصوير العواطف، لا يسعى إلى مطابقة الأصل، بل الإيماء إليه، توجهه بصيرة الفنان، ليثير في نفس المشاهد وجدانه الديني وعاطفته الجمالية، كيما تنزاح عنه السدود التي تحول بينه وبين الحقيقة الكونية العليا.
وأخيرًا، وليس آخرًا، فإنه إذا كان الشاعر هو اللسان المعبر لقومه، فها هو شاعرهم « أكبر » يقول:
إنه ليضحكني أن أسمع أن السمك في الماء ظمآن
إنكم لا ترون « الحق » في دياركم، فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم.
هاكم الحقيقة ! اذهبوا أين شئتم …
فإذا لم تجدوا أرواحكم، أمسى العالم زائفًا في أعينكم …
إلى أي الشطئان أنت سابح يا قلبي ؟ ليس قبلك من مسافر، كلا ولا أمامك من طريق…
ليس هنالك جسم ولا عقل، فأين تلتمس من يطفئ غلة روحك ؟
إنك لن تجد شيئًا في الخلاء
فتذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت
تقف بقدميك هنالك على موطئ ثابت
فكر في الأمر مليًّا يا قلبي ّ فلا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر
اطرد صنوف الوهم عن نفسك
وثَبِّتْ نظرك في حقيقة ذاتك
تنكشف أمامك عينيك حقيقة الوجود !