الشرق فنان (5)

من تراب الطريق (1107)

الشرق فنان (5)

نشر بجريدة المال الخميس 27/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ما يريد الدكتور زكى نجيب محمود أن يستخلصه ويستجلى أثره، هو أن نظرة الشرقي بإجمال ــ هي في جوهرها نظرة الفنان، تمس الأشياء مسًّا مباشرًا يؤثر في الوجدان..

|هذه النظرة لا تبعد عن الأشياء بالتحليل والتجريد اللذين من وظائف العقل المنطقي الصرف؛ وهي نظرة ترى الكائن الواحد في مجموعه كأنه حقيقة واحدة، ولا تنظر إليه بعناصره التي يتألف منها وينحل إليها، ثم هي نظرة سرعان ما تهتدى إلى الوحدة التي تضم شتات الكائنات في كائن يطويها في ذاته، فهي جزء منه. فمهما يكن من كثرة، فإن الحقيقة واحدة لا تعدد فيها.

وأبادر فأقول إن الدكتور زكى لا يقصد بذلك انتفاء النظرة العلمية لدى الشرق، وإنما هو يتناول الطابع العام الأعم.. ويرى أن هذا الطابع هو الذي يميز هذه النظرة الجمالية للوجود، ويميز من ثم ثقافة الشرق، إنما يتمثل في الكتب السماوية المنزلة والأسفار الدينية التي أوحى بها الله إلى رسله وأنبيائه حيث أراد أن يكون مبعثهم في الشرق.

فمن هذه الأسفار والكتب نبتت نظرة الشرقي إلى الحياة، وإلى الفن؛ وإلى الدنيا والآخرة.

لذلك فإن من لا يتمثل هذه الروح السارية في هذه الكتب والأسفار، بحيث يمزجها بذاته، فإنه لن يعرف معرفة صحيحة عن الشرق وثقافته، وهو إن أدركها وتعرّف عليها فإنه سوف يدرك وحدة الوجود، أو تلك الوحدانية الصوفية التي تدمج الكون في كائن واحد على كثرة واختلاف وتنوّع ما فيه من كائنات، وهذه النظرة هي التي تجعل للكون كله، ولكل هذه المخلوقات ربًّا واحدًا.

ولذلك فإن من لا يستطيع أن يتمثل ويتمرس هذه الخبرة الروحانية في حياته وفي فلسفته، يظل بعيدًا عن فهم روح الشرق، حتى وإن عاش فيه طوال حياته.

نعم، إن هذا بعينه يصدق على كل ثقافة أخرى، ويصدق على من يتمثلها، ولكن ذلك أصدق وأكثر ظهورًا بالنسبة إلى الشرق منه بالنسبة إلى الغرب. والسبب أن ثقافة الشرق معتمدة بالأساس على النظرة الفنية والخبرة الذاتية الباطنية.

أما النظرة العلمية فتقف بصاحبها علـى مبعـدة مـن موضـوع بحثه، فهو مثلاً لا يحتاج إلى رؤية الضوء بعينيه ليفهم قوانين الضوء في علم الطبيعة.

وتلحظ مثلاً أن في مصر القديمة، كان الدين، وهو خبرة ذاتية وليـس حقيقـة أو معادلة رياضية.. هو عماد الحياة، ومحور الأدب والفن وأساس النظام الاجتماعي ومع أن عقيدة المصري القديم أن السماء هي بداية الخلق، إلاَّ أنه لم يصور هذه السماء وأجرامها لنفسه تصويرًا يحوّلها إلى أبعاد ومسافات، بل تصورها قبّة تقف في فضائها الرحب « بقرة عظيمة » أقدامها مرتكزة على الأرض، وأن بطنها هو الذي نراه مرصعًا بآلاف النجوم الساطعة، وأنه بهذه الصورة تقوم الصلة بين الأرض والسماء عن طريق هذه البقرة العظيمة الولود.

وعلى ما في هذه النظرة من بعد عن الواقع، وعن القياسات والبراهين وإغراق في الخيال؛ فإن ذات هذا الخيال نابع من نظرة الفنان.

فنظرة المصري القديم إلى الحياة لم تتحول في عينيه إلى « بيولوجيا » أو براهين تخضع لتجارب العلماء، بل نظر إليها ـ فيما يورد الدكتور زكى نجيب محمود ـ نظرة جمالية فإذا هي حقيقة متصلة واحدة مقدسة أصولاً وفروعًا ؛ وفحواها أن مصدر الحياة مقدس نباتًا كان أو حيوانًا ؛ فالنخلة السامقة المثقلة بثمرها والوارفة بظلها في قلب الصحراء، والجميزة التي تزدهر وتترعرع في الرمال، والماء الذي يسقيهم، كلها قمينة بالقداسة والتوقير.. ترى القروي حتى يومنا هذا ينحني لقطعة الخبز إذا وجدها ملقاة في عرض الطريق، فيقبلها ثم يضعها في حضن الجدار بمأمن من أقدام السائرين؛ لأن لقمة الخبز نعمة الله إذ هي من مقومات الحياة.

والمغرور من الناس هو الذي ينظر إلى صنوف الحيوان والطير، فلا يلمس فيها رابطة الحياة التي تؤاخي بينه وبينها؛ فلا غرابة أن يهتدى المصري بوجدانه الحي الحساس إلى توقير هذه الأسرة الكبيرة بمختلف أفرادها توقيرًا بلغ حد التقديس.

زر الذهاب إلى الأعلى