الشرق فنان (1)
من تراب الطريق (1103)
الشرق فنان (1)
نشر بجريدة المال الأحد 23/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يحدثنا المرحوم أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الدكتور زكى نجيب محمود، بأن صفة الشرق هذه حقيقة مؤكدة، بكتابه الجميل « الشرق فنان »، وهو على طول الكتاب يعرض هذه الحقيقة، ويقدم أدلتها وشواهدها.
تستطيع أن تقول، على وجه الإجمال، إن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود؛ طرف يتمثل في الشرق الأقصى: الهند والصين وما جاورهما، ويتمثل الآخر في الغرب: أوروبا وأمريكا، وبينهما طرف وسط، يجمع بين طابعيهما؛ وهذا هو الشرق الأوسط.
الطابع الأصيل العميق للشرق الأقصى، أنه ينظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ من خلال الظواهر المتبدية للحس ـ ينظر من خلالها إلى حيث « الجوهر الباطن »، ومن ثم يدرك هذا الجوهر بحس مباشر يمزج ذاته في ذاته مزجًا تفنى معه فردية الفرد، ليصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم، فيدرك حقيقة الوجود بما يشبه التذوق، وهذا هو ما يميز الفنان في نظره إلى الأشياء، ومن ثم فهذه نظرة الفن.
أما الغرب فطابعه الأصيل العميق، أنه ينظر إلى الوجود الخارجي بعقل منطقي تحليلي، يقف عند هذه الظواهر ويحللها وهي تتابع على صورة أو أخرى، فيجعل من هذه الاطرادات في الحدوث، قوانين يستخدمها بعد ذلك في استغلال الظواهر الطبيعية فيما يرتضيه. وتلك هي نظرة العلم.
بداهة فإن هذه المقابلة العامة لا تعنى ولا يمكن أن تعنى أن الغرب خالٍ من الفن والفنانين، أو تعنى أن الشرق خالٍ من العلم والعلماء. وإنما هذا هو الطابع العام الذي يختصره البعض في « روحانية » الشرق، و « مادية » الغرب.
وقد التقى الطرفان، أو قل الطابعان، في الشرق الأوسط طوال عصوره التاريخية وحضاراته المتعاقبة ؛ فتجاور فيه الدين والعلم، والفن والصناعة. ضِف إلى ذلك أن إرادة الله شاءت أن يكون الشرق هو مهبط الرسالات والأديان المنزّلة.. ففيه نزلت اليهودية، والمسيحية، والإسلام.. ولم يلبث المفكرون أن نظروا إلى عقائدهم الدينية بحيث أقاموها أو فهموها على أسس عقلية. نرى ذلك عند فلاسفة المسلمين كالكندي والفاروبي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم، مثلما نراه عند المفكرين ورجال الدين، ولعل أبرز مثال مشهور على ذلك الأستاذ العقاد ودرته المتميزة: التفكير فريضة إسلامية.
بإيجاز بسيط، اجتمعت للشرق الأوسط الذي التقى فيه الطرفان المتقابلان ـ اجتمعت له في النظر إلى الوجود النظرتان: النظرة الروحانية، التي هي في صميمها نظرة الفنان، والنظرة العقلية المنطقية التي تحلل وتعلل وتستدل، وهي النظرة التي تميز بها الغرب.
* * *
ينوه الدكتور زكى نجيب من البداية، إلى أنه سيستعمل كلمة « الفن » هنا بأوسع معانيها، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة.. كأن هذا الوجود قطرة من قطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه. وتلك هي نظرة الروحاني، ونظرة الشاعر، ونظرة الفنان. هذه النظرة تتم على خطوة واحدة؛ بخلاف العلم النظري الذي ينظر إلى الوجود على خطوتين: في الأولى يتلقاه بالحواس، وفي الثانية يتناوله بالتحليل ليستخلص منه القوانين. ماذا يريد الدكتور زكى نجيب محمود أن يقول لنا ؟ يقول:
أنظر إلى العالم أو الوجود من « داخل » تكن فنانًا.
أو انظر إليه من « باطن » تكن شاعرًا..
أو انظر إليه من « ظاهر » تكن من رجال العلم والتجربة..
أو انظر إليه « وجودًا واحدًا حيًّا » تكن من أصحاب الخيال المبدع المنشئ..
أو انظر إليه « ككثرة من ظواهر متصاحبة أو متعاقبة » تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل ويستخلص النتائج بالحجة والبرهان..
وهكذا يأخذنا الدكتور زكى نجيب محمود إلى اللب.. فالنظر إلى الوجود قد ينطبع بنظرة الفنان، أو ينطبع بنظرة العالم .
هما إذن نظرتان مختلفتان:
نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحة ليقف عند الكائنات.. لأنه ينشدها في ذاتها.
ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزًا من قوانينه ونظرياته.