الشرق الفنان (24)

من تراب الطريق (1126)

الشرق الفنان (24)

نشر بجريدة المال الأربعاء 23/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الشرق والغرب كلاهما متفق على أن العين ترى، والأذن تسمع، ولكنهما لا يتفقان فيما تراه العيون وتسمعه الآذان.

يجيبك الشرقي عن هذه وتلك بأنها آيات يتبدَّى فيها الواحد الأبدي ويتجلى ليصبح بآياته تلك ــ مرئيًّا مسموعًا، أو بالأحرى كالمرئي وكالمسموع ــ ولكنه هو وحده الخالد الباقي، أما تلك الآيات الدالة على وجوده فإلى زوال وتجدد لأن قدرته تعالى لا تتوقف عند حد في آياته الدالة عليه.

أما الغربي فإنه يراها ظواهر يرتبط بعضها ببعض على صور مطردة، فإذا كشفنا عن عذا الاطراد ــ فقد كشفنا أو اكتشفنا القوانين التي تسير الأشياء على سنتها.

الإدراك الوجداني لا تقام عليه البراهين، وإنما هو يُمارَس ويُعَانى ويُختبر بالنفس. آية ذلك أن المحب لا يستطيع أن يعبّر عن لوعة قلبه بالبرهان.

أما القوانين التي يخلص إليها الفريق الثاني، فمما يقبل الإثبات والتعبير بالبرهان والدليل.. كشأن قانون الجاذبية مثلا.

يوضح الدكتور زكى نجيب محمود غايته، في أن ثقافة الشرق هي من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يقطع بيقينه لأنه قد أحسه بقلبه. والقلب دليله الذي لا يخطئ، ولكنه لا يستطيع أن يحاجيك به !

أما ثقافة الغرب، فهي من قبيل ما يُطلب البرهان على صدقه أو صوابه، ذلك لأنه قائم على التفكير النظري والمنطق العقلي.

وإذا تكلم الشرقي جاء كلامه مرتعشًا بهزة الوجدان الشاعر.

وإذا تكلم الغربي جاءت عبارته باردة كرمزها، ذلك أن حرارة العاطف تعيب استدلالها بما ترتب فيه النتائج على المقدمات، من زاوية العلم والمنطق والتجربة، لا من زاوية القلب والعواطف.

وهذا هو الفارق في الفن ــ فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود ـــ بين الفن هنا والفن هناك. لأن الفن الشرقي لم يكن يُراد به في كل عصوره أن يصور الحقيقة الجزئية الخارجية تصويرًا يستهدف التمثيل الدقيق كتمثيل الكاميرا. تلحظ ذلك في التصوير الهندي للآلهة والآلهات، فتراها ذوات أذرع كثيرة ورءوس متعددة إلى غير ذلك.

ذلك لأن الفنان الشرقي يرسم الحقيقة كما تقع في وعيه ويحسها في وجدانه.

أما الفنان الغربي ــ لو استثنينا الأعوام المائة الأخيرة فيما يتحفظ الدكتور زكى نجيب محمود ــ فقد كان يراعى أن تأتى الصورة كالواقع بأبعادها الثلاثة. ولن تخطئ ذلك إذا تابعت لوحات الرسامين وتماثيل الناحتين. ذلك أنه أراد دائمًا أن تجيء الصورة مطابقة للمصَوَّر.

دلالة ذلك أن الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين وأدب وفن وفلسفة ــ تعبيرات تخرج ما يضطرب في النفس والوجدان.

على حين أن الثقافة الغربية، بكل ألوانها من علن وفلسفة وفنون ــ لا تخلو أبدًا من الرمز إلى ما هو كائن خارج النفس بكل ما فيها من جيشان.

يقول الدكتور زكى نجيب محمود:

« فكأنما الفنان الشرقي حين يصور لك شيئًا فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفي ذاتها، لأنها هي نفسها الحق كله، وأما الفنان الغربي ـــ وأعيد هنا مرة أخرى أنني أستثنى الثورة الأخيرة في الفن الغربي ـــ فيعرض لك أثره الفني لا لتستمع به في ذاته ولذاته، بل لتنقل بعد ذلك من الأثر إلى المؤثر، من الصورة إلى المصوَّر، من الرمز إلى المرموز إليه. كأن الصورة الفنية عنه ضرب من الكلام العلمي الذي يقال ليدل على أشياء تقع خارج الكلام نفسه ؛ فهي ليست مكتفية بذاتها لأنها ليست هي الحق كله، إنما يكملها الطرف الآخر الخارجي الذي جاءت الصورة لتصوره وتشير إليه ؛ فلو توسعنا في القول بحيث نقول إن الرمز ــ كائنًا ما كان ـــ إذا أريد به أن يشير إلى مرموز إليه، كانت المنفعة هي أساس استخدامه، وأما إذا أريد به أن يكون نهاية في ذاته ولا يرمز إلى شيء سواه، كانت النشوة الجمالية هي أساس استخدامه، أقول إننا إذا أطلقنا القول على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافة الغربي هي ثقافة المنتفع وثقافة الشرقي الأصلية هي ثقافة المخمور بعاطفته المنتشي بوجدانه، فالأولى هي ثقافة العالم، والثانية هي ثقافة الفنان ».

زر الذهاب إلى الأعلى