الشباب والقدوة والتثقيف الذاتي

بقلم الأستاذ/ رجائي عطية

 

هل يكفى في إثراء دور الشباب ، ودفعهم إلى المشاركة في الحياة السياسية ـ أن نحضهم على الاقتداء ، وعلى الالتفات إلى القدوة ، والتأسي بها ـ بينما القامات العالية غائبة بما تمثله فعلاً من قدوة ، يجب تصديرها والإفادة بما لديها !

كيف يمكن الاقتداء بقدوة محجوبة ، محاطة بالمتاريس المانعة ، وكيف يمكن استمداد القدوة ممن لا قدوة فيهم ولا قدوة لهم . قديمًا قيل إن الإيمان ما صدقه العمل ، وقيل في القرآن المجيد : « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » !

لا يمكن للدعوات ، ولا لبناء الأمم ، أن تنهض على كلام لا يصدقه العمل . ربما كان العمل وحده ، المؤدى في وقار وصمت ، قادرا بلا دعوة ولا تنبيه ـ على إعطاء القدوة . فالقدوة تجذب جذبا تلقائيا بما تحمله من مقومات ، وتشد إليها الأنظار ومعها المهج والأفئدة والضمائر بلا إعلان . فكيف ندعو إلى قدوة أو قدوات محجوبة (؟!) ، وكيف نغذى شبابنا بقيمة القدوة بينما يتجرَّأ عليها ، ويظن أن الفلاح فى تجاوزها ، ولا بأس من التطاول عليها (؟!) ، وكيف نطلب من الشباب احترام القدوة بينما بعض البسطاء في قاع المدينة يداعبون أطفالهم بشتم آبائهم ، وكيف يمكن لمجتمع رشيد أن ينتظر خيرا من الشباب ، وهو يعطى ظهره للشيوخ ، ويقتل الطفولة ؟!

المشهد نفسه انفرطت معظم قيمه ، فهل يمكن أن تعلو قيمة القدوة من فراغ ؟!

أكبر أخطاء 1952 ، أنها اعتبرت أولى مقومات البناء ، هدم كل ما فات، فعصفت بكل أعلام مصر ، دون تفرقة بين الغث والسمين ، ولا بين المعوج والمستقيم ، فقامت فلسفة كاملة قوامها هدم هؤلاء الأعلام وتشويههم حتى صارت الأمة فجأة بلا آباء ! .. كان المثل العامي المعمول به : اللي مالوش كبير يدور له على كبير ! ، فتحول إلى أن الشاطر من يخسف الأرض بمن أمامه ليعلو وحده بلا مزاحم ولا منافس .. تفشى هذا من بناء الأفراد إلى بناء الأحزاب والكيانات .. اهبط بالآخرين أو حاصرهم لتعلو أو لتبدو عاليا . لا يهم أن تكون عاليا فعلا ما دمت تبدو للناس في العلالي.

لم يعد هناك فارق بين المخبر والمظهر .. بين الجوهر والرايش ، فتاهت كل القيم ، وانبهمت المعايير ، وتاهت البوصلة ، وصار المجتمع بلا قدوة !

تتوازى الثقافة مع القدوة في أثرها في تكوين قماشة الأجيال ، والشباب على الأخص ، وقد لا تكون الثقافة ميسرة إذا أصابها بعض ما أصاب التعليم من نحر نسعى الآن سعيًا محمودًا لتجاوزه وبناء التعليم على أسس سليمة .

وقد لا يتيسر للثقافة ما قد يتيسر في للطالب في دور التعليم ، لاسيما حين يتراجع المسرح وتتراجع السينما وتحاصر الأزمات كلاًّ من الصحافة الورقية والكتاب . هنا يبدو التثقيف الذاتى هو الملاذ للشباب .

قبل ثلاثين عامًا ، وقعت بالصدفة على كتاب للمفكر سلامة موسى ، سارعت بالتهامه مشدودا لعنوانه : « التثقيف الذاتى » أو كيف نربى أنفسنا ـ يومها (21/9/90 ) كتبت

عليه : « تمنيت لو كنت قرأته من (40) عاما .. حينئذ لوفر على كثيرا من التيه » !

الكتاب لا يدعو فقط للقراءة للتثقف ، ولكنه يثير ماذا يُقرأ ، وكيف يُقرأ ؟.. أو كما يقول فى تقديمه إن موضوعه هو تخريج المثقف . فهو يبحث الثقافة ماهية وغاية وقيمة .. كما يبحث الوسائل لتحقيقها . لا يعنى المؤلف بأى ثقافة ترص المعلومات ، وإنما يجعل همه

« الثقافة العصرية » التى صرف إليها حياته ومؤلفاته .. بدءًا من السوبرمان (1910) الذى تلاه بمقالات وكتب جميعها لافت يتصدى للعصر بكل معالمه الفكرية والأدبية والسياسية والاقتصادية .. تعجب حين تتصفح قائمة كتبه التى اقتربت من الخمسين .. أحلام الفلاسفة ، نشوء فكرة الله ، الحب فى التاريخ ، حرية الفكر وأبطالها ، أسرار النفس ، حرية الطفل فى مصر ، نظرية التطور وأصل الإنسان ، ضبط التناسل ، السيكولوجية فى حياتنا اليومية ، مصر أصل الحضارة ، غاندى والحركة الهندية ، البلاغة العصرية واللغة العربية ، عقلى وعقلك ، طريق المجد للشباب ، هؤلاء علمونى ، الإنسان قمة التطور ، الصحافة حرفة ورسالة ، معجم الأفكار .

أردتك أن تتعرف على الكاتب الذى نسيناه ، قبل أن أحدثك عن الكتاب : كيف تتثقف ذاتيا .. مقدمة المقدمات « شهوة الرقى » أو « النزعة الارتقائية » التى تملأ نفوس الشباب وتدفع فيه الرغبة والنشاط ، ولكن إلى أين ، وكيف ؟

يقول لنا سلامة موسى إن كتابه محاولة لإرشاد الشباب نحو الارتقاء الثقافى فى حدود البيئة المصرية والعربية بعامة . أو هو توجيه لرغبة التطور ، وإيضاح للصحيح والزائف ، فى عصر انفجارى ملىء بالأحداث والثورات والحروب والانقلابات ، فضلا عن التغير الآلى فى المخترعات ـ كيف نقف على اتجاهات ما يموج به عصرنا ، فنكون قاعدتنا المعرفية التى تعين على الفهم ؟!

ليس بوسعى أن أنقل إليك فى هذا الحيز شيئا ذا بال من الكتاب ، عشمى فقط أن أثير أشواقك إليه .. لترى كيف نثقف أنفسنا .. ماهية وقيمة الثقافة وغايتها ، من هو المثقف ، لا نقرأ بل ندرس ، تخريج الرجل العربى العصرى ، الكتب التى غيرت الأفكار والمجتمعات ، الكتب العشرة التى تنقصنا ، المعاجم العربية ، سيكولوجية الدرس ، كيف نقرأ الكتاب ، الهواية فى الثقافة ، والتربية للحياة ، دراسة اللغة العربية والأدب العربى القديم والكتب العربية القديمة ، اللغة الأجنبية ، والآداب العالمية ، الطريق إلى دراسة العلوم والسياسة والتاريخ والاقتصاديات والفلسفة والدين والفنون ، كتب رمزية وكتب بذرية ، التعمق للدراسة ، مائة كتاب مقترحة قبل أن يختم ببرنامج للتثقيف الذاتى .

لن ينال الثقافة من لا يملأ بوعى فراغات معارفه . هام وأساسى أن نعرف تاريخ العالم وكيف نشأت الحياة الأولى وتطورت على أرضنا ، وكيف توالدت ونشأت الحضارات ، وأن نعرف تاريخ ومضمون الأفكار والمذاهب السائدة فى عصرنا ، وأن نتقن لغتنا العربية ونعرف إلى جوارها لغة أجنبية تتيح لنا الإطلال على ما كتب بلسانها .. رحلة سلامة موسى مع الثقافة وما يلزمها ويغذيها ويملأ فراغاتها ـ رحلة ممتعة لا يستطيع البادئ فيها أن يغادرها إلاّ وقد وضع قدمه على أول الطريق !

زر الذهاب إلى الأعلى