السّحر في المسؤولية الجنائية
مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني
إلى أي مدى يمكن للقانون الجنائي أن يأخذ بعين الاعتبار التأثير النفسي للسحر على الإرادة؟ هل يمكن اعتبار الشخص المسحور فاقدًا للقدرة على التمييز والسيطرة على أفعاله بحيث تنتفي مسؤوليته الجنائية؟ وماذا عن الساحر نفسه، هل يُحاسب على أساس أنه مجرد محتال يمارس الخداع، أم أنه مسؤول عن النتائج المترتبة على أفعاله إذا استخدم السحر كوسيلة لتحقيق غايات إجرامية؟ هذه التساؤلات تكشف عن التعقيد الذي يحيط بعلاقة القانون بالسحر، حيث تتداخل المعتقدات الثقافية مع الأطر القانونية التي تعتمد على الموضوعية والعقلانية في تحديد المسؤولية الجنائية.
القانون الجنائي، يقوم على فكرة أن الإنسان مسؤول عن أفعاله متى كان متمتعًا بالإرادة الحرة والإدراك الكامل، وهو لا يعترف بالسحر كقوة تؤثر على الإرادة بالمعنى الغيبي، لكنه يواجه في بعض القضايا أشخاصًا يزعمون أنهم ارتكبوا جرائم تحت تأثير “تعويذة” أو “لعنة” جعلتهم غير قادرين على التحكم في أفعالهم. هنا يصبح التساؤل: هل يمكن أن يكون الاعتقاد بالسحر سببًا قانونيًا للإعفاء من المسؤولية؟ أم أن هذا الاعتقاد، حتى لو كان راسخًا في ذهن الجاني، لا يكفي لإسقاط التبعات القانونية عن أفعاله؟
الإشكالية الأساسية في هذا الطرح أن القانون لا يمكنه أن يأخذ بالاعتقادات الشخصية كمبرر للإعفاء من المسؤولية إلا إذا كان لهذه الاعتقادات تأثير نفسي أو عقلي مثبت علميًا.
فالشخص الذي يرتكب جريمة لأنه يعتقد أنه “مسحور” قد يكون مصابًا باضطراب نفسي يجعله غير قادر على إدراك خطورة أفعاله، وفي هذه الحالة، يمكن أن يخضع للتقييم الطبي النفسي لتحديد ما إذا كان مسؤولًا عن أفعاله أم لا.
لكن في غياب دليل طبي على فقدان الإدراك، فإن القانون لا يعترف بمثل هذه الادعاءات، إذ أن الاعتقاد الذاتي بالسحر لا يعدم الإرادة من منظور قانوني، تمامًا كما لا يُعفى شخص من المسؤولية لأنه يزعم أنه تصرف تحت تأثير “قوى خفية” دون إثبات طبي لهذا التأثير.
في المقابل، هناك حالات يكون فيها السحر وسيلة لارتكاب الجريمة وليس مجرد مبرر لها، وهنا يصبح التركيز القانوني على دور الساحر نفسه. فالقانون، حتى لو لم يعترف بالسحر كظاهرة حقيقية، فإنه يتعامل مع الأفعال التي تُرتكب تحت مظلته بوصفها أفعالًا مجرّمة.
فعندما يستخدم شخص السحر لإخضاع الآخرين لنفوذه، أو لابتزازهم، أو لإيهامهم بأنه قادر على تحقيق ما يعجز عنه البشر، فإنه يكون بصدد ارتكاب جرائم يمكن توصيفها قانونيًا مثل النصب والاحتيال، الإكراه النفسي، أو حتى التسبب في أذى بدني إذا استخدمت طقوس تؤدي إلى ضرر حقيقي للضحية.
في بعض القضايا الواقعية، لجأ بعض المحتالين إلى إيهام الضحايا بأنهم تعرضوا لسحر سيؤدي إلى موتهم أو إلى إصابتهم بأمراض خطيرة ما لم يدفعوا مبالغ مالية معينة مقابل “إبطال السحر”. في هذه الحالات، لا ينظر القانون إلى السحر بحد ذاته وإنما إلى الأساليب الاحتيالية المستخدمة، حيث يُعامل الساحر هنا كجاني مسؤول عن جريمة نصب إذا ثبت أنه استغل خوف الضحية وجهلها لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
وبالمثل، هناك حالات استخدم فيها السحر كوسيلة لإكراه الضحايا على تصرفات معينة، مثل إجبار شخص على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها أو دفعه إلى إيذاء نفسه تحت تأثير اعتقاد راسخ بأن “لعنة ما” ستصيبه إن لم يمتثل. هذه الأفعال تضع الساحر في موضع المسؤولية الجنائية، ليس لكونه “مارس السحر”، بل لأنه استخدم التهديد النفسي والاحتيال للتأثير على سلوك الآخرين بطريقة تضر بهم.
تبقى المعضلة القانونية الكبرى هي في حالات يكون فيها الشخص المسحور هو الجاني وليس الضحية، حيث يدّعي أنه ارتكب جريمته تحت تأثير “تعويذة سحرية” أفقدته السيطرة على إرادته. في مثل هذه الحالات، يجب على القضاء التحقق مما إذا كان هذا التأثير قد بلغ حدًا يمكن أن يُقارن بالإكراه الذي يعفي من المسؤولية أو على الأقل يخفف العقوبة.
لكن المشكلة تكمن في أن تأثير السحر لا يمكن قياسه بطريقة علمية موضوعية، مما يجعل من الصعب قبوله قانونيًا كعامل مؤثر على الإرادة. ولهذا السبب، فإن معظم الأنظمة القانونية لا تعترف به كسبب لإعفاء الجاني من المسؤولية، لكنها قد تأخذ في الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية التي جعلته يؤمن بأنه كان “مسلوب الإرادة”، وهو ما قد يؤثر على تقدير العقوبة في بعض الحالات.
التحدي القانوني الآخر يتمثل في أن بعض الجرائم المرتبطة بالسحر ترتبط بالممارسات العنيفة التي قد تصل إلى حد القتل أو التسبب في أذى جسدي بالغ. في بعض الحالات، يقوم أفراد بمهاجمة شخص ما والاعتداء عليه بدعوى أنه “ساحر” مسؤول عن كوارث أصابتهم، وهو ما قد يؤدي إلى وقوع جرائم قتل بدافع الانتقام أو الخوف. في مثل هذه الحالات، لا يكون السحر بحد ذاته هو محل التجريم، وإنما تكون الجريمة قائمة على الفعل نفسه بغض النظر عن الدافع.
في النهاية، يظل السحر موضوعًا معقدًا من الناحية القانونية، حيث تتداخل فيه المعتقدات الاجتماعية مع المبادئ الجنائية القائمة على العقلانية والموضوعية.
فبينما لا يعترف القانون الحديث بالسحر كقوة مؤثرة على الإرادة، فإنه لا يمكنه تجاهل التأثيرات النفسية والاجتماعية التي قد تدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب جرائم تحت تأثير الإيمان به. ولهذا، فإن التحدي الأساسي أمام التشريعات ليس فقط في التعامل مع السحر من حيث كونه ممارسة شعبية، وإنما في تحديد مدى تأثيره على المسؤولية الجنائية للأفراد، سواء كانوا ضحايا له أم مستخدمين له كوسيلة لتحقيق أهداف إجرامية.
والله من وراء القصد