
السرقة الإلكترونية السلبية
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
في واقعة حديثة نشرتها وزارة الداخلية المصرية، تم تحويل مبلغ مالي عن طريق الخطأ إلى حساب مصرفي آخر، وامتنع صاحبه عن رد المال بعد علمه بخطأ التحويل. ورغم أن القانون الحالي لا يصنف هذا الفعل على أنه سرقة بالمعنى التقليدي، فإنها تطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية حماية الأموال الرقمية في عصر التحول الإلكتروني، وما إذا كان من الضروري تطوير المفاهيم الجنائية لتواكب هذه الأساليب الحديثة، بما يضمن العدالة ويحمي الملكية الرقمية.
ومن وجهة نظري، ورغم أن الواقعة من حيث النص القانوني الحالي لا تخضع لجريمة السرقة بالمعنى “الضيق” المنصوص عليه في المادة 311 من قانون العقوبات المصري، فإن التطور المتسارع في طبيعة المعاملات المالية والرقمية يفرض علينا إعادة النظر في المفهوم التقليدي للاختلاس. الهدف من هذا الاجتهاد ليس التوسع غير المنضبط في التجريم، بل محاولة تطوير المفهوم القانوني بما يتسق مع التحولات التقنية التي غيّرت من شكل المال وطرق تداوله.
وحين ينتقل المال إلكترونيًا إلى حساب شخص عن طريق الخطأ، فإن هذا الأخير لم يُقدِم على فعل مادي، ولم يمد يده ليستولي على المال، وإنما وصل المال إلى حيازته التقنية بغير إرادته. إلا أن الخطورة تبدأ عندما يعلم بذلك الانتقال ويختار الاحتفاظ به مع إدراكه أنه ليس حقًا له. هنا نكون أمام صورة جديدة من صور الاعتداء على الملكية، تقوم على الامتناع الواعي المقرون بنية التملك، لا على الفعل الإيجابي كالسرقة التقليدية.
ومن هذا المنطلق، أطرح مصطلحًا فقهيًا جديدًا يمكن أن يشكل لبنة لتطوير الفكر الجنائي المعاصر، وهو “السرقة الإلكترونية السلبية”. هذا المفهوم يقوم على فكرة أن الفعل السلبي – أي الامتناع – يمكن أن يشكل في ذاته صورة من صور الاختلاس متى كان في بيئة رقمية، وكان صاحبه قد علم أن المال الذي بحوزته انتقل إليه بطريق الخطأ، ثم قرر الاحتفاظ به عمدًا. فهي “إلكترونية” لأنها تتعلق بمال رقمي انتقل عبر شبكة معلوماتية، و”سلبية” لأن السلوك المادي فيها لا يقوم على فعل اختلاس إيجابي، بل على امتناع مقصود عن رد ما لا يملك.
ولأن العالم الرقمي لم يعد منفصلًا عن الواقع المادي، فإن الاختلاس لم يعد مجرد نزع يدٍ مادية، بل أصبح تحكمًا تقنيًا غير مشروع في قيمة مالية مملوكة للغير. فالامتناع في العالم الرقمي ليس سكونًا، بل هو صورة من صور السيطرة، إذ يُترجم عمليًا إلى إبقاء المال في الحساب واستغلاله أو تعطيل رجوعه إلى صاحبه الشرعي. وهنا تتوافر ذات الخطورة الاجتماعية التي تقوم عليها جريمة السرقة التقليدية، بل إن الصمت الرقمي قد يكون أخطر وأكثر خفاءً.
وتأتي هنا أهمية قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ليس من حيث نصوصه التفصيلية، بل من حيث روح القانون وأهدافه العامة، والتي تهدف إلى حماية المال والممتلكات الرقمية، وضمان أمن التعاملات الإلكترونية، ومنع أي استغلال للأخطاء التقنية أو الثغرات المعلوماتية. هذا القانون يعكس إدراك المشرع المصري لحاجة القانون الجنائي لمواكبة التحولات الرقمية وحماية الأفراد والمؤسسات، ويؤسس إطارًا يمكن للفقه المصري من خلاله تطوير مفاهيمه التقليدية لتشمل صورًا جديدة من الجرائم المالية الرقمية.
وبناءً على هذا التحليل، يمكن القول إن الامتناع عن رد المال الذي وصل بطريق الخطأ في بيئة رقمية ليس مجرد مخالفة أخلاقية أو التزام مدني، بل فعل استيلاء غير مشروع يرقى إلى مرتبة الجريمة متى توافر القصد الجنائي بالاحتفاظ بالمال مع علم الجاني بعدم أحقيته فيه. وهنا تتجلى فلسفة العدالة في أن الجريمة لا تقوم على حركة اليد بقدر ما تقوم على نية القلب، وعلى وعي الجاني بأنه يملك ما لا يستحق.
بهذا المعنى، يصبح مفهوم “السرقة الإلكترونية السلبية” اجتهادًا فقهيًا يسعى إلى سدّ فراغ تشريعي، ويعيد إلى القانون الجنائي قدرته على مواكبة العصر، دون أن يبتعد عن جوهره الإنساني، الذي يقوم على حماية الحق والملكية والأمانة في كل زمان ومكان، سواء كان المال ماديًا أو رقميًا.
ومن ثمّ، يثور التساؤل المشروع: هل يمكن اعتبار من تلقّى مالًا إلكترونيًا بطريق الخطأ ثم امتنع عن رده سارقًا؟ وهل يمكن أن نُكيّف فعله كنصبٍ وهو لم يحتل ولم يخدع؟ هل نعتبره خائنًا للأمانة وهو لم يتسلم المال بعهد أو عقد؟ أم أننا أمام صورة جديدة من صور العدوان على ملك الغير؟
إن القول بانطباق نص المادة (311) من قانون العقوبات – التي تُعرّف السرقة بأنها “اختلاس منقول مملوك للغير” – يبدو للوهلة الأولى مغريًا، غير أن التعمق في طبيعة الواقعة يُظهر عجز النص التقليدي عن احتوائها. فالاختلاس في مفهوم السرقة يفترض نقل المال من حيازة صاحبه إلى حيازة الجاني دون رضاه، وهو فعل مادي إيجابي يجسد جوهر الجريمة. أما في حالتنا، فالمال لم يُؤخذ عنوةً، ولم يُنقل بخلسةٍ أو حيلة، بل أُرسل بإرادةٍ صحيحة من صاحبه، وإن كانت موجهة إلى غير المستحق. ومن ثم، لا يتحقق فعل “الأخذ” الذي يمثل الركن المادي للسرقة، ولا تتحقق إزالة الحيازة كما تصورها المشرّع. ومع ذلك، يبقى في عمق الواقعة جوهر العدوان ذاته؛ فالمتلقي لم يُقدِم على الاختلاس، لكنه أصرّ على الاحتفاظ بما لا يملك، متشبثًا بصمته كمن يُغلق بابًا على حق الغير. وهنا يتجاوز السلوك حدود الأخلاق ليقترب من الإجرام، لا لأنه فعل، بل لأنه امتناعٌ مع علمٍ وإرادةٍ وتصميم.
وقد يتبادر إلى الذهن نص المادة (321 مكرر)، الخاصة بمن “يعثر على مال مفقود فيمتنع عن رده بنية التملك”، غير أن المقارنة الدقيقة تكشف الفارق الجوهري. فالمفقود في مدلول النص هو المال الذي يفلت من صاحبه في مكانٍ عام دون علمه، فيقع في يد الغير مصادفة. أما في واقعتنا، فالمال لم يُفقد، بل أُودع بطريق التحويل الإلكتروني في حسابٍ محدد، نتيجة خطأٍ بشري في الرقم أو الاسم. لم يكن هناك “عُثور” ولا “صدفة”، بل “تلقيٌ عارض” في بيئة مصرفية منظمة. ومع ذلك، فإن الفكرة التجريمية الكامنة في المادة 321 مكرر تظل ذات مغزى عميق، إذ يُستشف منها أن الامتناع اللاحق عن الرد بعد العلم بالمصدر يُعدّ قرينة على نية التملك، وهو ذات المبدأ الذي يُبنى عليه التكييف المقترح لجريمة “السرقة الإلكترونية السلبية”. فالامتناع ليس جريمة في ذاته، لكنه يصبح كذلك حين يتخذ هيئة الاحتباس العمدي للحق، حين يتحول الصمت إلى إعلان إرادة في التملك، وحين يُجسّد الوعي بالخطأ رغبة في استمرار الظلم.
أما خيانة الأمانة، فإنها تُفترض حين يُسلَّم المال إلى الجاني تسليمًا مشروعًا على سبيل الأمانة، كوديعة أو وكالة أو إيجار، ثم يسيء التصرف فيه. وهي في أصلها جريمة خيانة للثقة العقدية قبل أن تكون عدوانًا على الملكية. بينما في هذه الحالة، لا توجد ثقة سابقة ولا تسليم إرادي، بل خطأ محض أوجد علاقة عرضية بين المالك الحقيقي والحائز العارض. فلا التزام يربطهما، ولا عهد يبرر وصف “الخيانة”. إن ما حدث لم يكن إساءة استعمال للأمانة، بل اغتصاب صامت لحقٍ علم صاحبه بوجوده فرفض إرجاعه. ومن ثم، يظل السلوك خارج دائرة المادة، وإن كان في جوهره يناقض روحها.
أما النصب، فهو جريمة تقوم على الخداع، لا على الرفض؛ على الكذب، لا على الصمت؛ على التحايل المقصود لإيقاع المجني عليه في تسليم ماله. أما هنا، فلم يستعمل المتلقي وسيلة احتيالية، ولم يستدرج أحدًا إلى فعلٍ أو امتناعٍ، بل وجد المال في حيازته دون جهدٍ منه. والخداع غائب تمامًا، لكن العدوان حاضر في صورة أخرى: الاحتفاظ المتعمد بما لا يُستحق. وهكذا تنتفي أركان النصب الشكلية، ويبقى الفعل مفعمًا بروح الجريمة من حيث الأثر والخطر والنتيجة.
إذن نحن أمام واقعة تنفلت من النصوص التقليدية وتصرّ على أن يكون لها توصيفها الخاص، واقعة لا تُدان بنص، ولكنها تُؤلم الضمير الإنساني كما تُؤلم القانون ذاته، لأنها تُظهر كيف يمكن للإرادة أن تُسيء بالصمت، وكيف يمكن للسكوت أن يُصبح عدوانًا. فالمال لم يُختلس، لكنه احتُبس بوعيٍ وبنيةٍ ظاهرة في الرفض، وهو ما يقتضي تطوير المفهوم القانوني للجريمة ليشمل تلك الأفعال السلبية التي تتخذ من الامتناع قناعًا للفعل.
ومن هنا يبرز المقترح التشريعي تحت مسمى “السرقة الإلكترونية السلبية”، وهو نموذج تجريمي يقوم على ثبوت القصد الجنائي اللاحق المتمثل في الاحتباس المتعمد للمال بنية التملك بعد العلم بوصوله والخطأ في التحويل، ومعرفة صاحبه ووسائل رده. وهو مبدأ له جذور راسخة في القانون، يستند إلى فكرة الامتناع المجرّم في المادة (321 مكرر) التي رأت في رفض رد المال المفقود صورة من صور نية التملك. ومن هذا المنطلق، يُستمد السند التشريعي لهذا النموذج الذي لا يُنشئ تجريمًا من فراغ، بل يُحيي في ثوبٍ جديد قيمة قديمة: أن العدوان على ملك الغير لا يُقاس بالحركة، بل بالإرادة، وأن الجريمة لا تكمن في اليد التي تمتد، بل في الضمير الذي يرضى.
بالتالي فإن هذه الواقعة البسيطة في ظاهرها، العميقة في جوهرها، تضع المشرّع أمام مرآة جديدة يرى فيها حدود النص حين يواجه واقعًا يتغيّر كل يوم. فالجريمة هنا لم تُولد من طمعٍ ظاهر أو حيلةٍ مدبّرة، بل من سكوتٍ متعمّد يقتل الحق بصمته. وهذا الصمت في حد ذاته فعل، بل لعله أشد خطرًا من الفعل، لأنه يجري في الخفاء ويستتر خلف مظهر البراءة.
ولا سيما أن التجريم المقترح “السرقة الإلكترونية السلبية” لا يرمي إلى معاقبة الخطأ، بل إلى حماية الضمير الإنساني من التواطؤ مع الظلم، وإلى صون الثقة في التعاملات المالية التي تقوم عليها حياة الناس اليوم. فمن يتلقى مالًا بطريق الخطأ ثم يعلم بحقيقته ويختار الاحتفاظ به، لا يختلف في جوهره عن من يمد يده إلى مال غيره عمدًا. كلاهما اعتدى على ذات القيمة: احترام ملك الغير وحرمة الحق.
فالقانون، مهما سمت نصوصه، لا يكتمل إلا إذا ظل قريبًا من وجدان الإنسان، ناطقًا بلسان العدالة لا الحرف. فليست العدالة أن نحاكم الأفعال الظاهرة فحسب، بل أن نُصغي إلى نيةٍ تُخفيها الإرادة، وصمتٍ يُخفي العدوان. وهذا ما يسعى المقترح التشريعي إلى إعلانه؛ أن العدوان لا يُقاس بالحركة وحدها، وأن الفعل الإجرامي قد يلبس ثوب الامتناع، وأن حماية الحق في زمنٍ رقميّ لا تتحقق إلا إذا امتد ضمير القانون ليشمل الأفعال الصامتة.
لماذا وُصفت هذه الجريمة بأنها (سرقة إلكترونية سلبية)؟ ولماذا لم تكن نصبًا أو خيانة أمانة؟ ولماذا كانت (إلكترونية) لا (رقمية)، و(سلبية) لا (امتناعًا)؟
ذلك لأن جوهر الفعل لا يقوم على الاحتيال كما في جريمة النصب، ولا على خيانة الثقة كما في جريمة الأمانة، بل يقوم على الاستيلاء الهادئ المتعمد على مالٍ وصل بطريق مشروع إلى حساب شخصٍ لا يملكه، ثم قرر الاحتفاظ به بعد علمه بخطئه. هنا يتحقق معنى السرقة في صورتها الجديدة، لأن العدوان على ملكية الغير لا يتوقف على الحركة المادية، بل يكفي أن يتحقق القصد بالتملك بغير حق.
أما وصفها بأنها (إلكترونية) لأنه يعبّر عن البيئة التي وقع فيها الفعل، لا عن طبيعة المال ذاته. فكلمة (الرقمية) تصف مادة المال أو البيانات التي تتكون من رموز وأرقام، بينما كلمة (الإلكترونية) تصف الإطار أو الوسيط الذي جرت عبره الجريمة، وهو النظام المصرفي أو التطبيق أو المنصة الإلكترونية. المال هنا لم يكن بيانات رقمية محضة، بل كان قيمة مالية انتقلت في فضاء إلكتروني منظم. ولهذا (الإلكترونية) أدق من (الرقمية)، لأنها تشير إلى عالم الأنظمة والاتصالات والتطبيقات، لا إلى طبيعة المال وحدها. فالرقمية تتعلق بالمضمون، أما الإلكترونية فتتعلق بالوسيط، ومن الوسيط تولّد الفعل الإجرامي.
أما وصفها بأنها (سلبية) فله دلالة نفسية وقانونية دقيقة، تختلف تمامًا عن (الامتناع). فالامتناع في مدلوله التقليدي يعني ترك واجب محدد بنص أو التزام قانوني، بينما (السلبية) حالة أعمق وأقرب إلى جوهر الإرادة الجنائية، لأنها تمثل موقفًا نفسيًا متعمدًا بعد تحقق العلم بوجوب الفعل. فالشخص الذي يعلم أن المال الذي دخل حسابه ليس له، ويعلم طريقة رده، ثم يختار الصمت، لا يمكن القول إنه مجرد ممتنع، لأن امتناعه ليس عجزًا بل إرادة واعية بالاحتباس. هنا يتحول الصمت إلى أداة، والسكون إلى فعل، والسلبية إلى نية تملك هادئة لكنها كاملة الأركان.
وهكذا، فإن الجمع بين الوصفين (الإلكترونية) و(السلبية) لم يكن اختيارًا لغويًا، بل ضرورة فكرية وتشريعية؛ فالأول يحدد فضاء الجريمة الجديد الذي انتقل من العالم المادي إلى العالم التقني، والثاني يكشف وسيلة العدوان الحديثة التي لم تعد تقوم على الحركة أو الخداع، بل على القرار الهادئ بالصمت بعد العلم.
سرقة من نوعٍ جديد، تقع في فضاء إلكتروني، وتتحقق بإرادة صامتة، حيث لم تعد اليد هي وسيلة الاستيلاء، بل النية المقيمة في ضمير صاحب الحساب، حين يقرر أن يبقي المال في حوزته وهو يعلم أنه ليس له. هكذا، وُلدت (السرقة الإلكترونية السلبية) من رحم الواقع، لا من قواميس اللغة، لتعبّر عن تحولٍ إنساني عميق في صورة الجريمة ووسيلة ارتكابها. والله من وراء القصد.