الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (6)

من تراب الطريق (1049)

الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (6)

نشر بجريدة المال الأحد 28/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نقول إن الماديات التي نشعر بوجودها داخلنا وخارجنا ـ تنقضي حتما بانتهاء حياة الحىّ بالنسبة له على هذه الأرض.. وبقاياها يفترسها الزاحف والطائر والكاسر والعائم، وما يتبقى من ذلك يصير ترابا من تراب الأرض.. قد يزكو به نبات وقد تذروه الريح وقد يستعمله حىّ آخر في أغراضه، وتتكرر الآية ـ ذلك فضلاً عن انقضاء معظم غرضنا من هذه الماديات ونحن أحياء فنتركها أو ننبذها لتصاريف الأقدار.. فما نشعر بأنه مادي يظهر ويختفي ثم يظهر ويختفي وهكذا بصور أخرى ـ في دورات يقتنصها من وقت لآخر وعى الآدمي ـ وباستمرار يبدو لنا لازما.. وهذا الاستمرار هو الذي يكسبها البقاء أي بقاء الجنس أو النوع أو الفصيلة أو الأسرة.. أي بقاء معنويا في استمراريته على متابعة الظهور بعد الاختفـاء أو الظهور والاختفاء معا من حيث تعدد الأفراد.. وهذا الفيض المتواصل من الظهور والاختفاء الماضين في لحظات وعيه تحفظ بعضه الذاكرة مجردا من حاضره الحالي مسندا إلى ماض.. سواء أكانت ذاكرة واعية أو لا واعية لاحتمال الانتفاع به في لحظات حية أخرى حاضرة وقتئذ قريبة أو بعيدة.

ومعظمنا لا يشعر بهذا التركيب نظرا لمداومة الاعتياد عليه طوال عمر كل منا بلا أي استثناء.. والذاكرة تميز بين المهم وغير المهم لدى كل منا، وهى لا تفتأ تنبهنا في لحظات متقاربة لتوالى الاهتمام به حتى يتحقق مقصودنا منه أو يفقد أهميته أو نيأس من تحققه. وقد يحدث العكس فلا نفطن إلى أهمية حدث إلاّ بعد وقت يقصر أو يطول.. وقد تسعفنا الذاكرة أو لا تسعفنا بتفاصيله نظرا لاختلاف القدرات وطول الوقت وظروف وقوع الحدث وتأثيره لدى من يتذكره مع افتراض الأمانة لديه.. فذاكرة الآدميين قنطرة لوعيهم بين ماضي كل منهم وحاضره وماضيهم جميعا وحاضرهم وبين قابله وقابلهم.. وهذه قنطرة كونية فيما يبدو، لا فضل في وجودها وقدرتها للبشر، برغم أنهم قد يساعدونها على الرقى والاقتدار والتطور باختيار مساعيهم واهتماماتهم وبتفطنهم وعنايتهم باستعداداتهم، وتجنبهم تشويهها بالغش والباطل والكذب المتعمد أو بتعويق نموّها واعتيادها بالأساطير والخرافات والأقاويل والأوهام والخيالات والمصدقات والمعتقدات الفاسدة المضللة !

ويبدو أن عقدتنا أو مشكلتنا الأساسية هي في كوننا أحياء بهذا الوجود الحىّ الواعي المغروس تمامًا في بيئة مادية في كل وقت وكل مكان ـ المطلوب أن يتلاءم معها ليستخدمها في استمرار حياته بغير معارضة ومبادلة، كما يحدث بين الآدميين وبعضهم البعض أو على نحو ما بينهم وبين أحياء أخرى.

ولم يكف الآدمي منذ أن عرف وعيه وفهمه عن محاولات فك هذه العقدة أمام عقله وعن تصور إمكان الفصل القاطع الحاسم بين ما هو حيوي ومعنوي وبين المادي الذي لم تتلبس به الحياة، وأن يتصور وهو على هذه الأرض إمكان استمرار حياته بعد أن يفارق الأرض في ثوب أدوم حياةً وأمعن في الروحانية من هذا الثوب المختلط بالماديات الذي يعيش فيه حياته في هذه الدنيا.. وهذا الأمل الرائع السامي حاولت أغلبية العقائد الدينية تقديمه لأتباعها وتقريبه إليهم على ألاّ ينال تحقيقه إلا من ماتوا أخيارا لم يلطخ صحيفة حياتهم على الأرض ما يجعلها في عين أي إنسان غير خليقة بمذاق هذا المأمول السامي الذي إذا استيقن الإنسان صحته قوت بلابله واستقبل الموت بالطمأنينة.

هذا المأمول يبدو أنه لازم كوني موجود في تركيب الإنسان.. مفروض أن يذكر الإنسان باستمرارية الحياة، وبأن هذه الاستمرارية في الإنسان تحتاج إلى نوع ما من الالتزام الأخلاقي أو المسئولية الأخلاقية تفريعاً على تمييز الإنسان بالوعي والإدراك والاختيار بالقدر المقدر له، وبأن استمرارية هذا النوع من الحياة الواعية المدركة يلزمها استمرارية نوع من الشعور بالمسئولية عما نوت واختارت وأدت وأهملت خلال ماض وحاضر عاشتهما ضمن حركة الماضي والحاضر التي لا تتوقف إلى المستقبل.. إذ يستحيل في عقل الإنسان أن تتوقف مسئوليته وتنتهي بلا رجعة بالموت، بل ينبغي أن تختتم بتصفية حساب وإبراء أو إدانة عن المسئوليات التي ركبت الآدمي إبان حمله للمسئوليـات وهـو على قيد الحياة.. مع إمكانية العفو والغفران تبعا للتوبة الصريحة أو الضمنية الخالصة المخلصة.

زر الذهاب إلى الأعلى