الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (4)

من تراب الطريق (1047)

الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (4)

نشر بجريدة المال الأربعاء 24/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كثرتنا لا تحتضن ماضيها إلا خافتا في الغالب الأغلب.. يزداد خفوتا واختلاطـا مع مرور الأيام وبعدها.. حشوه أحاديث وروايات وحكايات وأوهام وخرافات صعد كثير منها إلى مقام المصدقات والمعتقدات لدينا !.. فكثرتنا الكاثرة لا تكتتب بشيء في تقدمنا اللهم إلا بتكلفة هذا التقدم الذي يتوقف حتما إذا انقطعت الكثرة الكاثرة عن تقديمها.. وهو ما لم يحصـل عبـر الدهـور والأحقاب.. لأن هذه الكثرة لا تفطن إلى أنها هي الممول الرئيسي لما نسميه الدولة والإدارة والحكم والمرافق والمعاهد والمدارس والمعامل والمصانع ومعالم العلم والفن والأديان والآداب . يضاف إلى ذلك أن وجود كثرتنا الكاثرة الضخم الهائل كمتقبل وموزع وناشر غير دقيق ولا يبالى بصحة أو بطلان ما يردده، ولا يبالى بعقابيل صيحاته وقلقه وأفعاله وردود أفعاله، يوازيه أنه لا يفطن إلى أن سعى الكثرة الكاثرة الضروري لبقائها هي وعملها المليء بالخطأ والغفلة وقصر النظر، هو قوام كل شيء ذي قيمة وخطر وتأثير في مجتمعاتنا وتاريخ مجتمعاتنا وحضاراتنا في الماضي والحاضر والمستقبل !

وليس من حق أحد مهما كان ـ فردًا أو جماعة ـ الزهو بالفعل أو العطاء أو الدهاء أو العلم أو الفن أو الأدب أو التدين أو الأخلاق.. لأن كل ذلك يسقط ويبطل متى زال عن المجتمع كثرته الكاثرة . وفي هذا ما يقرب عالم البشر من عوالم الأمواج والطاقات والقوى، ولكن هل يأتي يوم تفطن فيه الكثرة إلى أن حياة القلة العارفة الفاهمة في يدها هي ؟!.. وهل يحتاج هذا إلى تطور فهم الكثرة وتقدمه بحيث تستطيع قيادة المجتمع دون حاجة إلى تدخل تلك القلة الفاهمة العارفة، أم أن مثل ذلك التطور والتقدم ستضيق بسببه مسافة الفروق بين العامة والخاصة، ويصبح التداخل والتمازج بين شقى الجماعة سهلا هينًا غير مصحوب بالشعور بالسيادة أو الأفضلية الذي تشتهيه الكثرة الآن وتحرص القلة على الانفراد به !

ربما صار العالم المتقدم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يسير حثيثا في هذا الطريق وإن باتت تلمع في آفاقه الآن ملوك المال الذين جمعوه بأيديهم ويحرصون على الاحتفاظ بسيطرتهم عليه وتميزهم به على الجميع لقوة تأثيره المادي والاجتماعي والسياسي.. وهو تمسك بماض الإنسانية الطويل الذي يعود إليه البشر كلما وجدوا فرصة مواتية.. لأنهم لم يصادفوا بعد ما هو أفضل وأكثر إغراءً وإرضاءً للنفس !

والواقع أننا في معظم الأحوال لا نرجع إلا لماضٍ معين أو أكثر سابق في اختيار أطايبنا وملاذنا من طعام وشراب ومسكن وجنس وامتثال لشعور عنيف بقوة الذات وسطوتها.. فمحاكاة الأقوياء والأثرياء لأمثالهم من الماضين محاكاة مشهودة لسهولتها، ولأن القوة والثراء لا يأتيان في الغالب نقاطا وتدريجيا بل يأتيان سريعين متتاليين لا يتيحان فرصة واسعة للتأمل والتفكير العميق الشخصي في التفاصيل.. فارتباط الحاضر بالسابق من هذه الناحية يكاد يكون فرديا وجماعيا ـ لا مفر منه.. وعلى الذين يريدون إزالة هذا الواقع الذي كاد أن يكون سليقة، أن يتضامنوا ويتكاتفوا في توفيـر نمـاذج متطورة ـ تعديلا أو إنشاءً ـ تكـون لائقـة متناسقة مع مجتمع متقـدم متطور في معظم أجزائه قابلة لأن يحتذيها العامة بلا صعوبـة ولا يأباها الخاصة لأولادهم وذوى قرباهم !

ونحن جميعًا نولد وكل شيء فينا أو معنا مشتبك اشتباكا يكاد يكون تاما بالذات التي لا تميز شيئا سواها، فكل شيء عندئذ يكون منها وإليها ومن أجلها.. حتى وجود الأمم ومن يقوم مقامها.. فهذه وتلك خادمة لازمة ملازمة للجميع ومن أجل الصغير لخدمة ذاته التي لا يرى سواها، ولكن مع مرور الأيام يثبت التمييز لديه بطيئا ويخف ذلك الاشتباك بالذات، ويبدو للآدمي ـ بوضوح يتزايد ـ أن إلى جوار ذاته ذوات أخرى لها حقها في الالتفات، وأننا جئنا لعالم يسع الكثيرين.. وأن على كل منا أن يعيش بينه وفيه ومعه، بقدر الاستطاعة وفي الحدود الممكنة عرفا أو عادة على وفق سنن الزمان والمكان.. وهذا لأن بدايتنا بتميز الذات وحدها لدى الصغير الذي تكون الذات لديه مركزة حول نفسها.. تعرف « الأنا » ولا تعرف غيرها معرفة تماثل وتشابه واشتراك في الحياة والكون.. ومن هنا كانت المحاسن التي يشعر الصغير بها مركزة على ذاته، ثم يأخذ تركيزها هذا في الانفراج والاتساع.. ويبدو هذا في تطور علاقته بالأم وبمن هي في مقام الأم وبالإخوة.. وهكذا يزداد الانفراج والاتساع مادام الإنسان حيا لا يتوقف إلا لعلة مرضية أو لسوء تربية !

زر الذهاب إلى الأعلى