الديمقراطية الغائبة وحكومات الدول في عهد الدعوة المحمدية

الديمقراطية الغائبة وحكومات الدول في عهد الدعوة المحمدية

نشر بجريدة الشروق الخميس 12/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يُقصد بتلك الحكومات، حكومات الأمم التي يصح أن تُسمى دولا في عهد الدولة المحمدية، وهي: دولة الفرس، ودولة الروم، ودولة الحبشة.

ولم تكن أي دولة من هذه الدول تأسست بنظام ديمقراطي.

فالدولة الفارسية كان يحكمها ملك الملوك أو «شاهنشاه» يساعده القضاة وولاة الأحكام من الموابذة (من قضاة أو حكام المجوس) أو كبار الكهنة المجوس، ويتحرى الشاهنشاه في اختيار رؤساء المناصب النسب والحسب وكانت الفواصل بين الطبقات على أشدها.

أما دولة الروم الشرقية، التي بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، فكانت مضرب المثل في الحكم المطلق، لدرجة أن مَن أرادوا تعييب معاوية بن أبى سفيان فيما فعله لتوريث الخلافة لابنه يزيد، عايروه بأنه يريد أن يجعلها «هرقلية». وكان قسطنطين قد ألغى مناصب وكلاء الشعب المعروفين باسم «التربيون»، وهم أناس ينوبون عن القبائل ويُنْسبون إليها من كلمة «ترايب» Tribe أي القبيلة. ولما جاء «جستنيان» جمع القوانين في المجموعة المعروفة باسمه وأبطل سلطان مجلس الشيوخ، واستقرت أوضاع الطبقات على ما بينها من فروق، وأكثرها مزايا وإعفاءات الطبقة العليا، ثم طبقات الملاك أصحاب الأرض وطبقة القادة والجند، ثم طبقة العامة من الزراع.

وكانت الحبشة، وعلى ما هي عليه وقت تأليف كتاب العقاد عن الديمقراطية في الإسلام ـ كانت عشائر يحكمها أمراؤها على رأسهم النجاشي ملك الملوك أو الإمبراطور (كما كان هيلاسلاسى) تشبها بالشاهنشاه الفارسي، وكان النجاشي ومَن حوله على اليهودية. متخذين من الشريعة الموسوية قانونا للجزاء والمعاملة، ثم دان الحاكمون بالمسيحية في أوائل القرن الرابع الميلادي قبل قرنين من البعثة المحمدية، وبقى القضاء موسويا بينما جرت مراسم العبادة في الهياكل وفقا للمسيحية مع بعض التحريف الذي تسرب من بقايا الوثنية، وتعددت من ثم المراجع في شئون الحكم ما بين الحاكم والحكيم والكاهن والرئيس، وعلى بعض التفصيلات التي ذكرها الأستاذ العقاد.

وقد روى المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة على عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كثيرا من أعمال السحرة والعرافين بالحبشة، وذكر الأستاذ العقاد أن الحكم ظل معتمدا عليهم في مراجع الحكومة إلى زمن قريب حتى عصرنا الحاضر، ومجمل القول في نظام الحكم في الحبشة أنه كان تابعا لصلاح أو طغيان أفراد الحاكمين، فإذا طغوا كانت الحكومة مستبدة، والعكس إذا عدلوا وأنصفوا.

وكانت مصر من أشهر البلاد في أيام الدعوة المحمدية، ولم تكن حكومتها لأهلها في تلك الفترة، وكان يقال عن حكومتها ما يقال عن الروم أو الفرس تبعا لتغير أحوالها.

الإسلام

والديمقراطية الإنسانية

يخلص الأستاذ العقاد من واقع ما تقدم، إلى أن شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية، ويعنى بها الديمقراطية التي يكسبها الإنسان لأنها حق له ـ يخوله أن يختار حكومته، وليست حيلة من حيل الحكم لاتقاء شر أو حسم فتنة.

وتقوم الديمقراطية الإسلامية بهذه الصفة ـ فيما يرى ـ على أربعة أسس لا تقوم أي ديمقراطية إلاَّ بها، وهي (1) المسئولية الفردية و(2) عموم الحقوق وتساويها بين الناس و(3) وجوب الشورى على ولاة الأمور و(4) التضامن بين الرعية على اختلاف الطوائف والطبقات.

وهذه الأسس كلها أظهر ما تكون في القرآن الحكيم، وفي السنة النبوية، وفي المأثور عن عظماء الخلفاء.

المسئولية الفردية

فالمسئولية الفردية على نحو صريح وبآيات قرآنية متكررة، تحيط بأنواع هذه المسئولية الفردية من جميع الوجوه.

فلا يحاسب إنسان بذنب غيره، ولا بذنب آبائه وأجداده.

«وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الأنعام 164)

ولا يحاسب الإنسان إلاَّ بعمله:

«وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى» (النجم 39)

«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (المدثر 38)

ومن تفصيل هذه المسئولية في السنة النبوية: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته..» والخادم هنا تؤخذ بالمقصود العام لكل مستخدم في عمل خاص أو عام، وفيما يكون تحت يده من أموال خاصة أو عامة، فهو في كل ذلك راعٍ ومسئول عن رعيته المؤتمن عليها.

المساواة

أما عن المساواة بين الناس، فإن القرآن الحكيم صريح في عموم الحقوق في مساواة النسب ومساواة العمل:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13)

وكلمة التقوى تشمل المسئوليات جميعا.

والأنساب لا تغنى عن الإنسان شيئا، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

«فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ» (المؤمنون 101)

وفي الأحاديث النبوية تفصيل لكل معنى من المعاني..

والنبي صلوات الله عليه هو القائل: إنه «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلاَّ بالتقوى».

وقد سمع عليه الصلاة والسلام أبا ذر الغفاري يقول: يا ابن السوداء. فغضب وقال: «طف الصاع. طف الصاع. ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلاَّ بالتقوى أو بعمل صالح…».

وقد وضحت التسوية بين الناس في الدعوة من قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّة لِّلنَّاسِ» (سبأ 28)… فليس الإسلام دعوة مقصورة على جنس من الأجناس ولا على عصبة السلالة، بل هذه العصبة كانت أبغض شيء إلى صاحب الدعوة كما قال في كثير من الأحاديث.

(3) الشورى

القرآن الحكيم صريح في وجوب الحكم بالشورى، بل وأوجبه على النبي عليه الصلاة والسلام نفسه، وجوبا لا يدع لأحدٍ من بعده عذرا في الإعفـاء منه، فيقـول الحـكم العدل سبحانه وتعالى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى» (الشورى 38)، ويقول آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام: «وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ» (آل عمران 159).

وفي السُّنة النبوية وقائع ثابتة شاور النبي عليه السلام فيها أصحابه، في موضع النزول ببدر، وعلى الماء هناك، وفي تأبير النخيل، وفي تقرير الهجرة إلى الحبشة، والهجرة بعدها إلى يثرب.

(4) التضامن في المسئولية

ومن تمام المسئولية الفردية ـ تكافل الأمة في المسئولية العامة، فحق الفرد مرتبط بالمجموع، وللمجموع حقوق على الفرد، والمسئولية في المسائل العامة مشتركة، تستطيع أن ترى ذلك بوضوح في قوله تعالى: «وَاتَّقُواْ فِتْنَة لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة» (الأنفال 25)، فالفتنة لن تقتصر آثارها الضارة على الذين ظلموا خاصة، وإنما سيعم ضررها على الجميع، ولذلك على كل فرد أن يدفع الشر جهد ما يستطيع، فلا تكليف خارج القدرة والاستطاعة، فلا يكلف الله نفسا إلاَّ وسعها، ولا يصاب المرؤ بضلال غيره ولا يحاسب عليه شرعا: «لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة 105).

* * *

وعلى هذه الأسس تقوم الديمقراطية في أي بيئة، وهي واضحة أصيلة في الإسلام قرآنا وسُنة.

وليس يهم ما تُعَرَّف به الحكومات من مصطلحات، إذ العبرة بالأسس والمقومات،

ومن ثم لا يغير من واقع الديمقراطية في الإسلام أن هذا اللفظ لم يكن مصكوكا بحرفه عند المبعث، وأنه من مفرزات العصور الحديثة، فالثابت الذي لا مرية فيه أن كل مبادئ الديمقراطية حاضرة ثابتة بوضوح في القرآن المجيد والسُّنة النبوية.

وفضل الديمقراطية الإنسانية على الديمقراطية عامة، أنها لم تُشرع إجابة لطلب أو خوفا أو اتقاء لغضب. بل إن هذه الديمقراطية شرعت وهي تغضب الأقوياء ولم يطلبها الضعفاء.

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى