الديانات والعقائد الدينية
من تراب الطريق (1066)
الديانات والعقائد الدينية
نشر بجريدة المال الثلاثاء 23/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أننا لا نفطن حتى الآن، أو لا نفطن إلاّ قليلاً، إلى ما معنا من الديانات والعقائد الدينية التي ننتسب إليها ونظن أننا نحسن اعتقادها والتمسك بها، معظمها قد صارت التزامات وقواعد اجتماعية تتبع حركة كل مجتمع كبير من عصر إلى عصر، وذلك منذ انتقلت هذه الديانة أو تلك من مرحلتها القصيرة المقصورة أول الأمر على جماعة قليلة العدد يعرف كل من فيها بعضهم بعضا معرفة شخصية، إلى اتساعهم وإحلالهم محل الجماعات الكبيرة العدد التي يستحيل في إطارها ذلك التعارف الشخصي نظرًا لاتساعها وامتدادها وترامى أبعادها وأفرادها.. ولذلك فإننا نعطى ما معنا من تلك الالتزامات والقواعد التي هي من ثمرات المجتمع الكبير، والتي فرضت وأضيف إليها وزال منها وحّور فيها وحل بعضها في الأهمية محل البعض الآخر، نعطيها خلال العصور والقرون التي مرت بتلك المجتمعات إلى أن تسلمها منها مجتمعنا الحالي وأدخل عليها دون أن نشعر ـ هو أيضا ـ حصته من التعديل والتحوير والتقدير والتأخير والخوف يعطيها دون تردد أو تردد منزلة التزامات ومقدسات هذه الديانة أو تلك في عهدها الأول المقصور على تلك الجماعة القديمة قليلة العدد جدًا التي يعرف بعضها بعضا معرفة شخصية كما قلنا.. مع الهوة الهائلة الواسعة جدًا جدًا التي تفصل في كل شيء عقلي أو عاطفي أو مادى بيننا الآن في مجتمعاتنا البالغة الضخامة وبين تلك الحفنة القليلة العدد التي تلقت الديانة أول مرة ومن رسولها وقبل أن تأخذها الجماعات الكبيرة وتصبح في قبضتها متأثرة بأهدافها الاجتماعية والسياسية والإدارية التي مازلنا نعيش في ظلها والتي التفتنا أو لم نلتفت، تبسط آثارها المقصودة وغير المقصودة على حياة كل منا وسلوكه وما يحـب ومـا يكـره دون أن يلاحـظ التزامها وحرصها أو عدم حرصها على مطابقة دقيقة مخلصة للعقائد كما كانت في نشأتها الأولى !!
وقد استسلم السابقون واللاحقون لذلك التأثير المتواصل واسترخت قبضتهم من عصر إلى عصر على التمسك بالديانة في صورتها السابقة على سطوة المجتمع الكبير.. وأدى ذلك بالضرورة إلى انحسار نفوذ العقائد الدينية وإلى إخلائها ـ في معظم أوقات الناس ـ الطريق لحياة مدنية يحكم ويتحكم فيها المجتمع الكبير والحكومة والنظم التي تقود مسيرته.. وأصبح دور الأديان والعقائد الدينية ـ دورًا جانبيًا محدودًا ضعيف التأثير في سلوك وتفكير وأهـداف أغلبية البشر !
فنحن إذا اعتززنا الآن بالعقائد، يكون أكثر اعتزازنا ـ أردنا أو لم نرد ـ اعتزازًا تاريخيا غابت تماما ونهائيا معظم معالمه الأولى وبات من المستحيل إرجاعها إرجاعا حقيقيا سائدًا في مجتمعنا الكبير الحالي . وهذا الواقع بطبيعة الحال لا يحول دون أن نجد بيننا من وقت إلى آخر، متدينين قليلين أو كثيرين متعصبين لفكرتهم عن الدين والتدين، يظنون أنهم قادرون على العودة بأنفسهم ونفوس سائر أفراد المجتمع الكبير إلى صفاء ونقاء وبساطة العهد الأول كما يصورونها . ودافع أولئك المتدينون دفاعا صحيحا قويا يقره أي عاقـل مفكر، هو عدم الرضاء عن المعايشة التي انحدرت إليها مراسم وطقوس الديانات في الجماعات الكبيرة وحق تلك الديانات في نصيب فعال من الإسهام في التقدم والتطور الذي تحققه الجماعة لكى يكون التقدم والتطور مأموني العواقب والآثار مطردي الزيادة والخصوبة . وهو ما يستحيل إحداثه بردة شاملة إلى وراء الوراء في الماضي البعيد جدًا لاختلاف كل شيء تقريبا بين ذلك الماضي وبين حاضرنا الآن !
وهذا النصيب الفعال الذي من حق الديانات أن تأخذه في جماعاتنا الآن هو نصيب الإخلاص والاستقامة والتراحم فيما بين الناس بعضهم وبعض الذي يجب ألا يتوه ويضيع كما هو حاصل الآن في كل مكان تقريبا.. ونصيب هذه الأمور الأساسية الثلاثة يجب أن يكون جادًا فعالاً في أي مجتمع إنساني صغير أو كبير وأن يعتبر ويحترم من كل زمان ماض أو حاضر أو مستقبل.. لأن هذه الأمور أجزاء من ناموس الكون فيما يبدو.. لا تتوقف على زمان أو مكان بعينه إذا أريد للنفس والعقل الترقي والنمو المطرد باستعمال الإنسان فطنته واتزانه وإجلالهما، ولكن المشاهد الآن في الديانات والعقائد الدينية أنها بدلاً من أن تضع تلك الأمور الأساسية الثلاثة في مركز الصدارة والأهمية في عيون رعاياهـا والتفاتهم، تخص معظم الالتفات لذات العبادات والشعائر وغيرها من الغيبيات المتعلقة بالحياة الآخرة مما يتصور معه الإنسان العادي أن في وسعه أن يؤديه بانتظام قولاً وحركةً دون أن يهتم اهتماما كبيرا بالإخلاص والاستقامة والتراحم !
ولو التفتت الهيئات الدينية كل منها إلى التركيز على الاهتمام بتلك الأمور الثلاثة والدعوة والدعاية لها سواء في نطاق أتباعها أو في نطاق غيرهم بلا تمييز ولا انحياز ولا تفضيل لأتباعها في ذلك على سواهم، ودون جعل الهم الأول لكل منها الدعوة والدعاية لنفسها ومحاولة السيطرة على المنتمين إليها والزيادة في أعدادهم ونفوذهم في المجتمع ليزداد نفوذها وانتشار عقائدها على نفوذ وعقائد غيرها.. ولو اندمجت جهود جميع الهيئات الدينية معًا في الجهود التي تبذل لتنبيه عموم الناس في كل مجتمع إلى ضرورة الحرص على بناء الإخلاص والاستقامة والتراحم، لأصبحت في مجموعها قوة فعالة تعتمد عليها الشعوب والحكومات اعتمادًا أساسيا في المحافظة على الأخلاق في المجتمع الكبير وتطويره وترقيته ولابتعدت بذلك التعاون الجاد المخلص، ابتعدت بالديانات عن هامشيتها الحالية وهامشية المهتمين من أتباع كل منها الذين يشعرون حتما بضعف قدراتهم وقدرات رئاستهم، عن مقاومة أعراض انصراف معظم المجتمع الكبير عن التقيد بالإخلاص والاستقامة والتراحم برغم احتياج الناس الشديد إلى ذلك كله !!