الدستور الأخضر نحو إطار دستوري لمكافحة التغير المناخي
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في يوم الثلاثاء الموافق الثالث والعشرين من شهر مايو 2023م، وفي كلمته بمناسبة افتتاح الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الأفريقي للتنمية، التي تستضيفها مصر، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن «إشكالية التغيرات المناخية وتداعياتها السلبية لا تنحصر في نطاق دولة دون غيرها، أو إقليم بعينه وإنما هي قضية وجودية، ينبغي أن تأتي على رأس الأولويات الاستراتيجية لجميع دول العالم». وأوضح الرئيس عبد الفتاح السيسي أنَّه «على عكس ما قد يعتقد البعض، فإن الانعكاسات السلبية للتغيرات المناخية، تتزايد على الدول الأقل نمواً وهو ما يظهر بوضوح في دول القارة الإفريقية إذ تؤدى هذه التغيرات إلى ارتفاع معدلات الجفاف واتساع رقعة التصحر، وتراجع إنتاجية المحاصيل الزراعية، وتشير التقديرات إلى أنّ المخاطر المرتبطة بالجفاف فقط في دول القارة الإفريقية أدت إلى خسائر تجاوزت قيمتها 70 مليار دولار فضلاً عن تسببها، في خفض نمو الإنتاجية الزراعية للقارة بنحو 34% وتقدر الاحتياجات التمويلية، لمواجهة الانعكاسات السلبية للتغيرات المناخية في أفريقيا، بنحو 3 تريليونات دولار حتى عام 2030م».
وفي يوم الخميس الموافق الخامس والعشرين من شهر مايو 2023م، وبمناسبة ختام قمة «صافي انبعاثات صفرية» المنعقدة بالعاصمة البريطانية لندن، وفي بيان صادر عن وزارة المالية، منشور على الصفحة الرسمية لرئاسة مجلس الوزراء المصري على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ألقى وزير المالية الضوء على النقاط الآتية:
المسار المناخي الآمن.. لن يتحقق إلا بتمويلات ميسرة.
نتطلع إلى دور أكبر للبنوك متعددة الأطراف في «الحلول التمويلية».
أدوات مبتكرة للتحول الأخضر وتشجيع الاستثمارات الخاصة الصديقة للبيئة
أفريقيا الأقل مساهمة في أزمة المناخ.. والأكثر تأثراً.. وتواجه صعوبات في الوصول لأسواق التمويل الدولية
نتطلع إلى استكمال مسيرة المشاورات بين دول العالم للخروج بتوصيات مثمرة خلال قمة المناخ Cop 28.
ففي كلمته في ختام القمة، أكد وزير المالية أن المسار المناخي الآمن الذي نسعى إلى الوصول إليه من خلال اللقاءات والاجتماعات الدولية لن يتحقق إلا بتوفير تمويلات تنموية ميسرة للبلدان الأفريقية والاقتصادات الناشئة خاصة في ظل الوضع الاقتصادي العالمي وما تواجهه هذه الدول من تحديات إضافية بسبب ارتفاع تكلفة التمويل نتيجة لزيادة أسعار الفائدة بشكل غير مسبوق، لافتًا إلى أن أفريقيا تُعد الأقل مساهمة والأكثر تأثراً بأزمة المناخ، فضلاً على مواجهتها صعوبات في الوصول لأسواق التمويل الدولية للقيام بالاستثمارات اللازمة للوصول إلى «الحلول المناخية».
وقال الوزير: إننا نتطلع إلى دور أكبر للبنوك متعددة الأطراف في «الحلول التمويلية» عبر توفير تمويلات خضراء ميسرة للدول الناشئة تحقق أهداف التنمية المستدامة، وتدعم الانتقال العادل إلى تنمية منخفضة الانبعاثات، إضافة إلى مشاركتها في توفير أدوات مبتكرة للتحول الأخضر وتشجيع الاستثمارات الخاصة الصديقة للبيئة، بما يسهم في تعزيز مستقبل أكثر مرونة واستدامة بيئياً للجميع.
وأضاف الوزير أن حكومتنا تعمل جاهدة على جذب استثمارات صديقة للبيئة، مثل: «تصنيع السيارات الكهربائية أو المزودة بالغاز الطبيعي، والطاقة الشمسية، والهيدروجين الأخضر، وتحلية مياه البحر، وتوليد الطاقة من الرياح»، وأننا حريصون على تنويع مصادر وأدوات التمويل ما بين إصدار السندات الخضراء، وسندات الساموراي، وسندات الباندا، وسندات التنمية المستدامة ذات البعد الاجتماعي.
وقال الوزير: إننا نتطلع من خلال مؤتمر «قمة المناخ Cop 28» المنعقد بدولة الإمارات الشقيقة إلى تحقيق التوصيات التي انتهت اليها قمة المناخ السابقة واستكمال مسيرة المشاورات والجهود بين دول العالم بما يسهم في تشجيع تدفق وجذب المزيد من الاستثمارات النظيفة بما يساعد على التصدي للتغيرات المناخية ودعم النمو الأخضر.
والواقع أنه مع احتدام أزمة توفير العملات الأجنبية في مصر، ثار التساؤل بين الاقتصاديين عما إذا كانت التمويلات الخضراء للمشروعات يمكن أن تحل أزمة الدولار. إذ تبرز تمويلات المشروعات الخضراء كمصدر هام لتوفير النقد الأجنبي، خاصة أنها عادة تكون ذات غرض تنموي ويمكن تسديدها على المدى الطويل. ويعكس حجم التمويلات الدولية ثقة المؤسسات حول العالم في أن الاستثمارات من هذا النوع ستجد أرضاً خصبة في القاهرة، إذ حصلت الدولة على ما يقارب مائتي مليون يورو من مرفق تمويل الاقتصاد الأخضر التابع للبنك الأوروبي، في إطار المرحلة الأولى من برنامج إعادة الإعمار. كذلك، قام صندوق المناخ الأخضر التابع للأمم المتحدة بتقديم تمويلات لعدد أربعة مشروعات في مصر، بقيمة إجمالية مقدارها 297 مليون دولار في قطاعات متعددة. كذلك، وفي يوم الأربعاء الموافق الخامس من شهر أبريل 2023م، أعلن مجلس الوزراء المصري أن تحالف البحر الأحمر لطاقة الرياح وقع اتفاقية إغلاق مالي بقيمة 680 مليون دولار لمشروع إنشاء مزرعة رياح في منطقة خليج السويس بقدرة 500 ميجاواط. ووفقاً للبيان الصادر عن مجلس الوزراء في هذا الشأن، فإن الاتفاقية تم توقيعها من قبل ممثلي شركة البحر الأحمر لطاقة الرياح وجهات التمويل، وهي بنك التعاون الياباني والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أنّ الدول الصناعية الكبرى يقع عليها التزام وواجب توفير تمويلات بقيمة مائة مليار دولار سنوياً، وذلك وفق ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2009م في كوبنهاجن، لكنها لم تلتزم بذلك حتى الآن. ومع ذلك، لا يخفى على أحد زيادة نسبة التمويلات الخضراء التي حصلت عليها مصر خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. ويبدو أن استضافة مصر لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP 27) قد أسهم بشكل كبير في زيادة حجم التمويلات الخضراء المقدمة إلى الحكومة المصرية. وربما يكون من المناسب في هذا الصدد أن تبرز الدولة المصرية جهودها الحثيثة في مكافحة التغير المناخي وإظهار عزمها الأكيد على التخفيف من آثار هذه الظاهرة، وذلك من خلال تضمين الدستور النص على مكافحة التغير المناخي. وكما كانت مصر أولى الدول العربية ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إجراء تعديل دستوري لدستور 1971م للنص على الحق في البيئة، فالمأمول أيضاً هو أن يتم إجراء تعديل دستوري للدستور الحالي بالنص على التزام الدولة بتعزيز جهودها نحو مكافحة التغير المناخي. بيان ذلك أن النص الأصلي لدستور 1971م لم يتضمن أي مادة تتعلق بالحق في بيئة نظيفة أو أي مادة عن التزام الدولة بحماية البيئة. ولكن، وبموجب التعديل الدستوري الحاصل في التاسع والعشرين من شهر مارس 2007م، تم تعديل المادة التاسعة والخمسين من دستور 1971م، بحيث غدا نصها على النحو التالي: «حماية البيئة واجب وطني، وينظم القانون التدابير اللازمة للحفاظ على البيئة الصالحة». وكان نص هذه المادة قبل التعديل يجري على النحو التالي: «حماية المكاسب الاشتراكية ودعمها والحفاظ عليها واجب وطني». وهكذا، فقد ورد النص لأول مرة في الدساتير المصرية المتعاقبة على حماية البيئة، منظوراً إليه باعتباره واجباً وطنياً. ومع ذلك، فقد لاحظ بعض الفقه – بحق – أن هذا النص جاء عاماً إلى حد كبير ومبالغ فيه، مؤكداً على ضرورة حماية البيئة، من دون أي تفريق بين واجب الدولة وواجب الأفراد في هذا المجال. ثم جاء دستور 2012م أكثر تفصيلاً، بنصه على أن «لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة وتلتزم الدولة بصون البيئة وحمايتها من التلوث، واستخدام الموارد الطبيعية، بما يكفل عدم الإضرار بالبيئة والحفاظ على حقوق الأجيال فيها» (المادة الثالثة والستون). وعلى هذا النحو، وبإمعان النظر في النص المشار إليه، يبدو جلياً أن مفهوم حماية البيئة قد تطور من مجرد إعلان هدف أو قيمة معينة إلى منظور حقوقي ينص على حق كل إنسان في بيئة صحية سليمة. ولما كان كل حق لشخص ما يستتبع وجود التزام على عاتق شخص آخر أو على عاتق الدولة ذاتها، لذا فقد ألقى دستور 2012م التزاماً على الدولة التزاماً بالحفاظ على البيئة واتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق هذه الغاية.
أما الدستور الحالي الصادر عام 2014م، فقد قطع شوطاً كبيراً في اتجاه تعزيز حماية البيئة وتقرير التزامات تفصيلية على الدولة في هذا الشأن. وباستعراض النصوص ذات الصلة بالموضوع في دستور 2014م، يبدو سائغاً القول إن حجر الزاوية في هذا الشأن يتمثل في المادة السادسة والأربعين من الدستور الحالي، بنصها على أن «لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطني. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها». ولم يكتف المشرع الدستوري المصري بالنص على كفالة الحق في بيئة صحية سليمة، وإنما حرص على تقرير التزام الدولة بالحفاظ على أهم عناصرها. وفيما يتعلق بالبيئة المائية تحديداً، ومنظوراً إلى الأهمية الكبيرة لنهر النيل، الأمر الذي دعا هيرودوت إلى القول إن «مصر هبة النيل»، تنص المادة الرابعة والأربعون من الدستور على أن «تلتزم الدولة بحماية نهر النيل، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به، وترشيد الاستفادة منه وتعظيمها، وعدم إهدار مياهه أو تلويثها. كما تلتزم الدولة بحماية مياهها الجوفية، واتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق الأمن المائي ودعم البحث العلمي في هذا المجال. وحق كل مواطن في التمتع بنهر النيل مكفول، ويحظر التعدي على حرمه أو الإضرار بالبيئة النهرية، وتكفل الدولة إزالة ما يقع عليه من تعديات، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون». ولما كانت مصر تطل على كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وتحتضن العديد من البحيرات، لذا فإن المادة الخامسة والأربعين من الدستور تنص على أن «تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها، أو تلويثها، أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون». كذلك، وارتباطاً بحماية البيئة، حرص المشرع الدستوري المصري على تقرير مبدأ التنمية المستدامة التي تراعي الاعتبارات والمتطلبات البيئية وتراعي حقوق الأجيال القادمة. وهكذا، تقرر المادة السابعة والعشرون من الدستور مبدأ النمو المتوازن جغرافياً وقطاعياً وبيئياً. وتنص المادة التاسعة والعشرون على تنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه وحمايتهم من المخاطر البيئية. وتنص المادة الثلاثون على تمكين الصيادين من مزاولة أعمالهم دون إلحاق الضرر بالنظم البيئية. وتنص المادة الثانية والثلاثون على التزام الدولة بالحفاظ على الموارد الطبيعية وحسن استغلالها وعدم استنزافها ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها. كما تلتزم الدولة بالعمل على الاستغلال الأمثل لمصادر الطاقة المتجددة وتحفير الاستثمار فيها.
ولا شك أن النصوص الدستورية سالفة الذكر تنهض دليلاً دامغاً على اهتمام الدولة المصرية بحماية البيئة، بما يصب في نهاية المطاف في مكافحة التغير المناخي. ولعل ذلك يتحقق بشكل واضح وجلي من خلال العمل على الاستغلال الأمثل لمصادر الطاقة المتجددة وتحفيز الاستثمار فيها، الأمر الذي ورد النص عليه في المادة الثانية والثلاثين، كما أوضحنا سالفاً. ومع ذلك، فإن مصطلح التغير المناخي لم ترد أدنى إشارة إليه في نصوص الدستور الحالي. ولذلك، نرى من الملائم إضافة بعض المواد التي تنص صراحة على مكافحة التغير المناخي، وتقرر بعض الالتزامات الدستورية وثيقة الصلة بهذا الموضوع، وذلك أسوة بما هو وارد في بعض الدساتير المقارنة. وقد يكون من المناسب النص في الدستور على تحقيق هدف اقتصاد خالٍ من الكربون بحلول عام معين. وقد يكون من المناسب كذلك النص على تعزيز الاقتصاد الأخضر ودعم الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة التغير المناخي. حفظ الله البشرية من كل مكروه وسوء.