الخليفة الملك (1)
من تراب الطريق (911)
الخليفة الملك (1)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 11/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
سادت فكرة الخليفة الملك عدة قرون، انتهت عملا بانتهاء الدولة العثمانية في العشرينيات من القرن الماضي، صاحب الملك انتفاع الخليفة بالدين واستخدامه في توثيق ولاء المسلمين لشخصه وملكه ودولته، وهيمنة الملك -استنادًا إلى ذلك- على توزيع المناصب الكبرى في الدين والدنيا.. واتخذ الإسلام تبعًا لذلك جنسية كلية أو وطنية عامة انتهت إلى الإقرار للملك الخليفة بملكه وخلافته معًا، وحملت الإسلام بغير حق طغيان وظلم وحماقة الطغاة والظلمة والحمقى من ملوك الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين وغيرهم.. كما حملت الإسلام بغير حق مسئولية تجذر الاستبداد وشيوعه تلك القرون الطويلة !!
ويخطئ من يعزو التجربة الإسلامية العظيمة التي كانت في زمن النبوة والراشدين، إلى مجرد قرب عهد المسلمين بالبداوة وما يرتبط بها من البساطة والقرب من الطبيعة، ذلك أن البداوة تعرف الاستعلاء وتحبه وتعشق العظمة وتتيه بها.. وعبرت عنها أشعار شعرائها.
كذلك من الخطأ رد نفور الإسلام من العظمة والأبهة وأستارهما -إلى فكرة الزهد- ذلك لأن من يتأمل موقف الإسلام يرى بوضوح أنه يرفض العظمة لأنها شيء غير مفيد وضار لمن يرجو العيش في سلام وكرامة وصدق مع النفس والغير.
نفور الإسلام من الاستعلاء والعظمة، مرده إلى تعلقه الشديد بالصدق.. وهو تعلق يعبر عن جوهر الإسلام في تعامل المسلم مع ربه.. معاملة فيما كبر أو صغر، وفيما جل أو حقر.. هذا التعامل مع الله حاضر في الفرائض وفي العبادات وفي المعاملات.. وهو تعامل لا يتحقق إلاّ إذا كان أساسه الصدق الصرف مع الله تعالى، ومن المحال أن يحل محله «مظهر» الصدق أو صورته أو اصطناعه أو المراءاة به.. لأن كل هذه الصور والمظاهر التي يمكن أن تخيل على الناس، لا قيمة لها عند الله تبارك وتعالى الذي يعلم السر وما يخفي.. والمسلم السوي لا يستطيع أن يرى عظيمًا غير الله تعالى، ولا أن يبصر عظمة غير عظمة الله تعالى، فإليه سبحانه وحده تتطامن وتعنو الوجوه والنفوس وتخبت للحىّ القيوم.
لذلك فاستغناء الإسلام عن حكم الناس في إطار العظمة، اقترن باستغنائه عن تقديس أو تأليه السلطة.. وارتبط في جوهره بفكرة المساواة التي ترفض التعاظم والاستعلاء، وتربط بين الناس بشعور فكرى كامن فيهم، وهو الجسر الحىّ للتقريب، ومنبع الشعور بالكرامة التي تعطى للمسلم حقه في ألاّ يتكبر عليه أحد، وأن يعيش في مجتمع عماده الهداية والرشاد والحكمة والمساواة.
* * *
لم يتجاهل الإسلام الفوارق الموجودة بين الناس، ولا افترض عدم وجودها، وإنما عمد القرآن والسنة إلى تغيير نظرة الناس إلى هذه الفروق ومعناها ودلالتها وقيمتها، وإلى مكافحة العادات الجاهلية الظالمة ومنعها من أن تستبد بتأويل وفرض تأويلها لهذه الفروق.
هذه المعالجة الباطنية النفسية اتخذت طريق التلقين: تلقين المسلمين أولا أن الملكات والمزايا والتراث والقيم ـ كلها نعم مصدرها الوحيد هو الله عز وجل، وأن بقاءها وزوالها مرتبط برضائه سبحانه ومشيئته.. وأن كل المخلوقات رهن بهذه المشيئة، وأن من تعاظم على ربوبيته قصم ظهره، إذ العظمة لله وحده لا يفكر في مشاركته فيها إلاَّ مشرك ؟
والتلقين الثاني الذي عمد إليه القرآن والسنة، هو تلقين المسلمين أن المبالغة والتطرف والإفراط في الطلب -ليس من الإسلام- وأن الله تبارك وتعالى لا يحب الانفراد والاستئثار والاحتكار والبخل، ويمقت الاستطالة على الناس بالمال أو بالسلطة أو بالأهل، وأنه سبحانه وتعالى يحب السماحة والسخاوة والرفق، وأن المهم لنجاح الحياة هو البركة لا الكثرة.
والثالثة التي عنى بها الإسلام، هي تلقين المسلمين أنهم إخوة به.. وأن لهذه الأخوة تبعاتها أمام الله بتساندهم في السر والعلن، فلا يجوع منهم أحد ولا يعطش ولا يتعرى ولا يُظلم ولا يُروع ولا يُضام بينما إخوته آمنون يأكلون ويشربون ويلبسون وينعمون.. وأنه عز وجل لا يقبل ممن أسلموا وجوههم إليه أن يتباغضوا ويتنافروا، وإنما يحب لهم أن يتحابوا ويتساندوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.. ولا يقبل الذي يحب أن يحتاز لنفسه كل شيء.. وأن يمتلك ويتميز ويتسيد ويرتفع وحده، فهذا الانعزال والانحياز للذات يعطل تيار الإسلام، ويبث الأنانية والتباغض والتباعد والغربة والفرقة بين المسلمين الذين يحب الله تعالى لهم أن يتأخوا وأن يتقاربوا.
أما الرابعة التي يلقنها الإسلام لأهله، فهي ألا يخافوا الفقر ولا ينبغي أن تفزع قلوبهم منه.. فخوف الفقر من الشرك الخفي لأنه ضعف في الإيمان بالله وضعف في الثقة بوعده.. وكذلك يلقنهم الإسلام ألاّ ينفروا من الفقراء أو يتجنبوهم أو يتعالوا عليهم أو يستخفوا بهم أو يستكثروا نعمة الله على ضعيف أو فقير، أو أن يكرهوا وصول نور الله وفضله ورحمته إليهم.
والإسلام يلقن أهله خامسا، إدراك قيمة الناس والاعتراف بأهميتهم واحترام خصوصياتهم وحرماتهم، وتحاشى كسر خواطرهم بالاستطالة والصولة والتعالي عليهم وقلة المبالاة بهم.
ويلقنهم الإسلام كذلك، أن الفروق التي تستوقف أنظار الناس، عرض زائل لا يمس حقيقة الإنسان.