الخداع الضرير
الخداع الضرير
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 20/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من الظواهر المؤسفة أن يقع الأفراد أسرى جدوى الأكاذيب والخداع .. وأن يظنوا أن المهام والأعمال والإنجازات والحقائق والأدوار تنجز بالدعاوى والمخادعات مهما بلغت من التفاهة والتهافت والتـنافر والافتضاح . تابعت من أيام مشهدًا غريبًا إدعى فيه متقول لم يدرك أن الناس تفهم وتعى ، أنه لا بأس من اختيار وانتقاء وترسية بالأمر المباشر لجهة وحيدة فى عطاء كبير لجهة أموالها أموال عامة ، وشأنها شأن عام ، وأن البأس لم يأت هذا التصرف الجانح من قريب أو بعيد مادامت الشركة المختارة المنتقاة بالأمر المباشـر هى فى نظره فوق مستوى الشبهات لأنها تتبع فيما يرى جهازًا حساسًا كبيرًا من أجهزة الدولة !
وفات هذا المنطق المخادع الضرير ، أن أولى شبهات التربح للنفس تأتى من هذا المنطق ، فجريمة التربح التى أثمتها المادة /115 عقوبات تعاقب على كل ربح أو منفعة للنفس أو للغير ، وللمنفعة معنى يجاوز الربح المادى إلى كل منفعة قد تكون مادية أو معنوية أو أدبية ، أو جالبة لمكانة أو لنفوذ أو لمزايا وتقادير وصلات ومكانات ومحبات ، ولذلك لا يوجد فى مكانة الشركة المختارة المنتقاة المكلفة بالأمر المباشر ـ بفرض هذه المكانة ـ ما يدرأ الشكوك فى قصد الاستفادة الشخصية من الترسية أو يحجب أغراض التربح للنفس بالحصول على المنافع الأدبية والمعنوية فى مثل هذه الأحوال !
هذه واحدة !!
والثانية أنه فى مقابل التربح للنفس أو للغير ، يوجد احتمال الإضرار بالمال العام ..فاستقامة الترسية بالأمر المباشر ، وهذا غير جائز مادامت مخالفة للقواعد والأصول ، لا يدرأ بذاته احتمالات الإضرار بالمال العام .. فتعدد العطاءات الذى تتيحه المناقصات أو المزايدات حسب الأحوال ، هو الذى يحقق المنافسة الجادة الحقيقية بين العطاءات ، فيصب فى صالح الترسية بأفضل الأسعار وأقلها فى حالة المناقصة وأزيدها فى حالة المزايدة . والاختيار بالأمر المباشر مهما كانت عناصره ، هو حجب غير مشروع ومؤثم للتناضل والتنافس الحر بين أكثر من عطاء فى إطار إجراءات شفافة تضمن تحقيق أكبر العوائد للمال العام وتقيه من الإضرار الذى يتسبب فيه بالتأكيد أسلوب الاختيار والانتقاء والترسية الانفرادية بالأمر المباشر !
أغرب الغرابة أن يجرى هذا الحديث الطائش من رجل قانون أو يقال لرجال قانون ، ظنا أن الدنيا قد ساد فيها وماج حوار الطرشان ولم يعد أحد يبالى بما يقال ولا كيف يقال ولا بأى أسلوب ومنطق يقال ويجدف به تجديفا مؤسفا فى المنتديات وعلى شاشات الفضائيات لتعم ثقافة الجهالة والخداع ، ويضيع الفهم والوقار وسط الضجيج والصخب والشعارات !!
وأحيانًا ما يخادع المخلوق نفسه . يتجلى ذلك فى أسلوب النعامة فى إخفاء رأسها فى الرمال ، فهو دال فى جميع الأحوال على خيبة تصور أن محاولة الخفاء تنطلى على الكافة مهما كانت محاولتها فاشلة مفضوحة ! كنت أحاجى على الهواء نصًّا معيبًا شاردًا أعطاه من لا يملك تطوعًا من وراء ظهر أصحاب الدار إلى السلطة التنفيذية مانحًا إياها فى شخص السيد وزير العدل سلطة الترخيص للمحامين الأجانب بالعمل فى مصر ، وفى سابقة غير مسبوقة سحبت السلطة من مجلس نقابة المحامين الذى عليه أن يوازن مصالح وحقوق المحامين المصريين قبل أن يرخص لمحام أجنبى بالعمل فى مصر ، ليعطى المعطى هذه السلطة بالترخيص لوزير العدل شاملة كل الأجانب بلا قيد ولا استثناء !! وتشمل بذلك المحامى الإسرائيلى والأمريكى والإنجليزى والفرنسى !!
ولكن المتطوع من وراء المحامين بإعطاء نص لا يملك إعطاءه ولا التفريط فى حقوق النقابة والمحامين ، توهم أن المكابرة بمنطق النعامة تجدى .. فادعى على خلاف النص والحقيقة الواضحة فيه أن ترخيص الوزير مشروط « بموافقة » النقابة ، وكانت هذه كذبة نكراء ، فالنص الذى كنت أحمل الجريدة الرسمية التى تضمنته لـم يـورد بتاتًا شرط « الموافقة » ، ولم يتفضل إلاّ بلفظ هلامى مطاط عن « تنسيق » يطلـق دومًا مـن بـاب « السبوبة » وإبراء الذمة لتمرير ما لا يجوز تمريره !!
ترى ما الذى يدعو أحدًا أن يتصور أن الناس بدورها ستساير مراده ولا ترى ما يريد إخفاءه ولا يريد أن يراه الناس ؟!. لقد رأى المحامون والمتلقون أن اللفظ المستخدم فى النص غير الادعاء المزعوم ، ثم تابعوا بعدها محاولة أخرى لإخفاء المصيبة الثانية والأدهى على منطق النعامة ! فالمتطوع بغير حق قام بإعطاء سلطة الترخيص ـ بمشروعه الانفرادى ! ـ للسلطة التنفيذية التى تختلف مفرداتها وتوجهاتها بالتأكيد عن نقابة المحامين .. فالحكومة ملتزمة بالتطبيع ، ونقابة المحامين والمحامون يرفضون التطبيع !!.. والسيد المتطوع المانح يتجاهل ثانيةً أن سلطة الترخيص التى أعطاها ـ وهو لا يملك !ـ للسلطة التنفيذية ممثلة فى السيد وزير العدل ، لا قيد عليها ولا تخصيص ، تشمل المحامى الإسرائيلى كما تشمل غيره من المحامين الأجانب ، ولكن صاحب منطق النعامة يتوهم للمرة الثانية أن الناس والمتلقين والسامعين لن يسمعوا إلاَّ صوته المتهدج عن الأمريكى والإنجليزى ، ولن يتنبهوا إلى الإسرائيلى !!.. لم يكن هناك بدٌّ أمامى من أن أردد وأكرر لفظ « الإسرائيلى » ليسمع الناس كلمة إسرائيلى التى يريد الفاعل ألا يستمعوا إليها ويريد أن يطمس عليها .. لأن انكشافه يعرى كذب المواقف العنترية التى يفتعلها ضد التطبيع !! بينما يعطى سلطة الترخيص للمحامين الإسرائيليين بالعمل فى مصر ، وضاربًا عرض الحائط بموقف نقابة المحامين وقراراتها وحقوقها ومصالحها وتوجهاتها ورفضها للتطبيع وممارسة الإسرائيليين عمل المحاماة فى مصر !!!
فهل أجداه مسلك أو منطق النعامة ؟!
ظنى أن خيبة محاولة الإخفاء ، جاءت بمردودين عكسيين آخرين .. خيبة المحاولة ، وافتضاح أمرها وارتدادها سلبًا موجعًا على صاحبها الساعى للمغالطة والتخفى والإخفاء !!