الحماية الشرعية للغة الأصولية والقانونية
[ فصول في "اللُّغتين الأصولية والقانونية "(الفصل 13) ]
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]
تتعدد اللغةُ الواحدةُ بتعدد زوايا رصدها واستتباعها، فاللغةُ العربيَّةُ هي لغة أمة العرب وبلدانها، وهي اللغة الوطنية لكل دول العالم العربي، وعلى رغم ما يبدو للوهلة الأولى من وحدتها ووحده قواعدها إلا أنها تتمايز وتتنوع بحسب موضوعاتها وتبعا لوظائفها..! فهناك اللغة العربية المتخصصة ذات الخصوصية في موضوعها والاختصاص في مصطلحاتها والنوعية في قواعدها وتنظيماتها ، فيما تمثله “اللغة الأصولية” وقواعدها “القواعد الأصولية اللغوية”، وكذلك “اللغة القانونية” مع “تنظيماتها القانونية اللغوية “
وللحماية وجوه شرعية وقانونية ، ولنبدأ بالحماية الشرعية التي أطلقها الفقهاء الأصوليون للغة الأصولية وأولوها عناية خاصة في مؤلفاتهم الأصولية ، ثم إنها تجلت كذلك في مجموعة من الاعتقادات اليقينية في عصمة وقداسة مصدر التشريع الأول وهو النص القرآني ، ثم ذلك الاعتقاد المبرهن عليه في سمو ورقي مصدر التشريع الثاني وهو السنة النبوية المشرفة ، وهي تلي القرآن فصاحةً وبلاغةً وإن لم تبلغ مبالغه في الإعجاز اللفظي ولا المعنوي .
وهذه عدة مظاهر تعبر عن وجوه الحماية الشرعية لهذه اللغة الأصولية المتخصصة والتي يتمثل اختصاصها في كونها ميزان الفهم وآلة التفسير ومعيار استنباط الأحكام من النصوص الشرعية .
المظهر الأول: عقيدة حفظ القرآن الكريم عن التزيد والتحريف والغلط ..
ليس يخفى أن معجزة الإسلام الكبرى هي القرآن الكريم بإعجازه اللفظي والمعنوي وبإحكامه البنائي، وتعد الشريعة الإسلامية هي الأكثر اهتماما بنصوصها القانونية والعناية بضبطها من بين الشرائع السماوية، لأن نصوص القانون في الشريعة الإسلامية مصدرها القرآن والسنة ونصوص القرآن على وجه الخصوص نصوص سماوية مقدسة لا يعتريها التغيير ولا التبديل.
فالقرآن كلام الله الذي أنزله على سيدنا محمد بواسطة سيدنا جبريل معجز في لفظه وفي معناه، متعبَّد بتلاوته، له خصوصيته وقداسته، وقد حفظه الله تعالى عن التحريف والتصحيف والدَّخَل، كما الأمر في اليهودية وفي المسيحية نصوصهما مقدسة متعبد بها، بل وفي كثير من الديانات القديمة [انظر د.محمود السقا: أضواء على فلسفة تاريخ القانون ص 91، ط دار الثقافة العربية، جامعة القاهرة د.ت ].
وهناك من النصوص الكثير في إكبار كتاب الله وتعظيمه وفي التنويه بحفظه من التحريف وانعصامه عن اللغو، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. وفي تفسير القرطبي: » ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الحاقة: 51] يَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ لَحَقُّ الْيَقِينِ».[أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ): الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي(18/ 277) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات) ].
وفي تفسير الطبري: “عن قتادة، قوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، قال في آية أخرى ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ﴾ [فصلت: 42] والباطل: إبليس ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42] فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقا، حفظه الله من ذلك» [تفسير الطبري = جامع البيان تحقيق أحمد ومحمود شاكر (17/ 68) ]
المظهر الثاني: اختراع علماء الأصول لعلم مخصوص يضبط فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتفسيرها واستنباط الأحكام منها
تميزت الشريعة الإسلامية بالعمومية وتناولها كل شئون المسلم إيمانيا في الاعتقاد وفي العبادات والسلوكيات، وفي المعاملات العامة بين الناس سواء التجارية أو الاقتصادية ، وفي علاقات النسب والمصاهرات والعلاقات الزوجية، إضافة إلى علاقة الحاكم بالمحكوم في الحقوق والواجبات وأمور العدالة وكافة الأمور العامة… فجاءت الآيات والأحاديث بتنظيمها واتصل فقه الفقهاء واجتهاداتهم لتنظيم ما جل وعظم تنظيما مباشرا أو غير مباشر ، ولاستنباط ما دق وخفي وكل ما يحتاج إلى إعمال الذهن في فهمه واستنباطه.
ولتحقيق فهم الأحكام الشرعية من نصوصها -على الوجه الصحيح- عنى العلماء الأصوليون والفقهاء بوضع قواعد أصولية لغوية غايتها تنظيم قواعد وأصول الفهم عن الله وعن رسوله في سابقة لم تعرفها أمة من قبل، وجعلوا هذه القواعد الأصولية اللغوية ضمن علم مميز جدا هو “علم الاصول” باسم: مبحث “القواعد الأصولية القانونية « وهو مبحث لغوي أصولي له تنظيماته وأدواته الخاصة التي تستجيب -مع باقي القواعد الشرعية والعقلية- لحاجة النصوص إلى الفهم والتفسير، ولتعليم طوائف المتفقهين طرائق فهم الأحكام وضوابط تفسيرها وآليات استخراجها من أدلتها الشرعية.
ومن أول وأهم المصنفات في ذلك كتاب “الرسالة” للشافعي [أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) ، المحقق: أحمد شاكر الناشر: مكتبه الحلبي، مصر الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م ]
ثم تلاه كافة علماء المذاهب تصنيفا وتأليفا تحشية وتمتينا في هذا الفرع العلمي، ومما اشتهر من التصانيف في ذلك -على سبيل المثال
1- كتاب “الإحكام في أصول الأحكام”، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) .
2-“المستصفى”، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ) [تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1413هـ – 1993م ] .
3- وكتاب “المحصول” للفخر الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1418 هـ – 1997]
4- و”الأشباه والنظائر” [لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفى: 771هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1411هـ- 1991م ]
وغيرهم الكثير ، ولا داعي للاستطالة هنا إذ سنأتي على تفصيل ذلك لاحقا في مواضعه
المظهر الثالث: الاهتمام بالوظائف القضائية اللغوية «كاتب العدل» وغيرها.
مما يثير الانتباه وبشدة اهتمام القرآن الكريم في صراحة ووضوح ببعض الوظائف القضائية والقانونية ذات البعد اللغوي مباشرة، وهذه لفتة قرآنية ينبني عليها مقتضيات وتشي بمعان كثيرة، وهي وظيفة أو «صناعة الكتابة العدلية” وهي صناعة متكاملة في الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، فـــ”كاتب العدل» هو من يكتب العقود والديون والمعاملات بين الناس بحقها أو بالعدل، وأصل هذه الصناعة مباشرة يتجلى في قوله تعالىفي المداينة، قال الطبري في تفسيره: “القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين (كاتب بالعدل)، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه» [ محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): جامع البيان في تأويل القرآن المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م. ]
المظهر الرابع: العناية القرآنية المباشرة بتحسين الخطاب (القانوني والاجتماعي ) مع ولي الأمر
وهذا ملحظ آخر أن يهتم القرآن مباشرة في آيات عدة بتحسين الخطاب اللغوي أو التواصلي والاجتماعي مع ولي الأمر، حيث أمر الله سبحانه في أكثر من سورة وأكثر من آية بالمُخاطبة والخِطاب الوسطي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في غير غلو يصل إلى عبادته ولا في خشونة أو إجحاف به يتأدَّى إلى ازدرائه، وهو ملمح جدير بالالتفات أن يأتي أكثر من نص قرآني فيه حث على تحسين الخطاب الاجتماعي والقانوني ..، موضوعا وأداء وإلقاءً بين يدي ولي الأمر وهو نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم -.
فقال تعالى: ﴿ لَّا تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) ) [الحجرات: 2-4]. قال العز بن عبد السلام في تفسيره: ﴿لا تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ﴾ [النور: 63] نهى عن التعرض لدعائه بإسخاطه فإن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره أو لا تدعونه بالغلطة والجفاء ولكن بالخضوع والتذلل؛ يا رسول الله، يا نبي الله، أو لا تتأخروا عن أمره ولا تقعدوا عن استدعائه إلى الجهاد كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض [الكتاب: أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى: 660هـ)/ تفسير القرآن (وهو اختصار لتفسير الماوردي) ص 2/414 المحقق: الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي، الناشر: دار ابن حزم – بيروت الطبعة: الأولى، 1416هـ/ 1996م.].
وفي هذا السبيل يمكن فهم أمر الله لنبيه موسى بحسن مخاطبة فرعون لترقيق قلبه وترغيبه في الإيمان :” (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ)، ولا يسلينا في هذا المقام ذكر التوصية القرآنية العامة بالتخاطب بين الناس عموما بالإحسان :” وقولوا للناس حسنا ” وبين الناس بعضهم ببعض ” وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم “.. وعلى رأس ذلك خطاب الوالدين كما قال سبحانه :” ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما “