الحماية الجنائية للمُشاهد

مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني

لم يعد المُشاهد في زمن الصورة كائنًا محايدًا يجلس أمام شاشة يتوقع منها المتعة أو المعرفة، بل أصبح هدفًا لرسائل تتسلل إلى (وعيه) دون أن يشعر، وتعيد تشكيل رؤيته للعالم ولمعاني الأخلاق والسلوك. والشاشة لم تعد نافذة بريئة، بل بوابة يمكن أن تتدفق منها الإباحية المقنعة، والأفكار الهدّامة، والتبريرات الخفية التي تغزو العقل قبل أن يستوعب معناها. وهنا يتولد السؤال الذي لا يستطيع أي مجتمع تجاهله: من يحمي المشاهد من هذا الانفلات؟ ومن يمنع المحتوى من أن يتحول إلى أداة تهدم أكثر مما تبني؟

إن خطورة المادة الإعلامية ليست في وضوحها، بل في قدرتها على تمرير ما لا يُقال. فمشهد يبدو عابرًا قد يزرع في النفس رؤية جديدة للخطأ، ويجعل السلوك المنحرف قابلاً للتبرير، ثم تتحول التبريرات إلى عادات، والعادات إلى واقع نراه في سلوك شباب لم يكن يدرك أنه يتلقى تربية موازية من الشاشة تفوق تأثير الأسرة والمدرسة معًا. ولعل أكثر ما يكشف هذه العلاقة هو ما أثبتته الدراسات الجنائية من أن التعرض المستمر للمحتوى الإباحي يؤدي إلى تطبيع الانحراف الجنسي، وإلى تراجع حساسية الدماغ تجاه المشاهد الجنسية، بما يدفع بعض الأفراد إلى البحث عن تجارب أكثر خطورة، وقد ثبت أن هذا النمط من التعرض يرتبط بزيادة معدلات التحرش والاعتداءات الجنسية، ليس لأنها مشاهد تُقلَّد حرفيًا، بل لأنها تشوّه البوصلة الأخلاقية وتضعف قدرة الفرد على التحكم في غرائزه وحدوده.

وليس الأمر مقتصرًا على الإباحية وحدها، فالأفكار الهدامة التي تمس بنية القيم تبدأ غالبًا من عمل فني يُقدّم شخصية منحرفة في صورة جذابة، أو يضع نموذجًا متمردًا في مركز البطولة، أو يقدم حياة بلا ضوابط باعتبارها حرية. ومع تكرار هذه الصور تنشأ حالة من التعاطف غير الواعي، ثم تتحول إلى قبول، ثم تنتقل إلى سلوك، حتى يصبح المشاهد جزءًا من عملية إعادة إنتاج هذه الأفكار في الواقع. فالفكرة عندما تُعرض بصريًا لا تبقى في حدود الخيال، بل تنفذ إلى العقل وتستقر في اللاوعي، ثم تعود مرة أخرى على هيئة سلوك ملموس. وما يراه الشباب في المسلسلات والأفلام والإعلانات لا يموت بانتهاء الحلقة، بل يعيش في المفردات اليومية، في طريقة التفكير، وفي الجرأة على خرق التقاليد والحدود، حتى نرى في الشارع ما كنا نظنه مجرد “خيال” سينمائي.

وهنا يظهر دور الحماية القانونية، لا كمطرقة تهدم الفن، بل كدرع يصون الإنسان من أن يتحول إلى متلقٍّ بلا مقاومة أمام رسائل ملوثة. فالدول التي تحترم حرية الإبداع لم تسمح يومًا بنشر الإباحية أو التحريض أو الأفكار المدمرة بلا ضابط. فرنسا تفرض رقابة صارمة وتصنيفات عمرية دقيقة، وتملك سلطة وقف البث عند تجاوز الحدود. وبريطانيا تمنح Ofcom صلاحيات واسعة لمنع المحتوى الضار أو المضلل. ومصر عززت دور المجلس الأعلى للإعلام لضبط ما يمس الأمن الأخلاقي والوعي العام. هذه النماذج لا تستهدف الحجر على الفن، بل حماية المشاهد من العبث، لأن الحرية إذا لم تُصن بالمسؤولية تحوّلت إلى فوضى، والفوضى لا تنتج مجتمعًا سليمًا.

وإذا كان القانون هو السور الذي يمنع الانفلات، فإن الوعي هو السلاح الذي يحمي الروح. فالمُشاهد الذي يتلقى محتوى بلا وعي يصبح عرضة للتأثر بأي صورة أو كلمة، أما المشاهد الواعي فيستطيع أن يفرز ما يبني عن ما يهدم. لكن الوعي وحده لا يكفي أمام قوة الصورة وسرعة انتشارها، وهنا يصبح التدخل التشريعي ضرورة لحماية العقل والوجدان من الانهيار البطيء. فالحماية الجنائية ليست عقوبات فقط، بل هي رسالة بأن المجتمع يحمي ذاته ويحافظ على قيمه ويصون أبناءه.

وفي نهاية المطاف، لا تقوم حماية المُشاهد على منطق المنع فقط، بل على رؤية إنسانية ترى أن الإنسان أمانة، وأن عقله يستحق الرعاية، وأن وعيه هو أثمن ما يجب الحفاظ عليه. فإذا لم نحمه من الإباحية التي تشوّه غرائزه، ومن الأفكار الهدامة التي تزيّف وعيه، فسوف نجد أنفسنا نواجه جيلاً مشوشًا، يتصرف وفق صور شاهدها لا وفق قيم تَربَّى عليها. وحينها لا يكون السؤال: كيف حدث هذا؟ بل: لماذا لم نتدخل حين كانت البداية مجرد مشهد؟

المُشاهد الذي نريد حمايته ليس متلقيًا ضعيفًا، بل إنسانًا له الحق في أن يعيش في مجتمع لا تعبث شاشاته بوعيه، ولا تقتحم حياته أفكار غريبة عنه، ولا تتحول أدوات المتعة إلى أدوات تدمير. وإذا كان الإعلام نافذتنا على العالم، فالقانون هو الستار الذي يمنع هذه النافذة من أن تتحول إلى ثغرة يدخل منها ما يهدد قيمنا. وما بين الشاشة والقانون يقف الإنسان، يحمل قلبًا يستحق الطمأنينة وعقلاً يستحق الحماية، وهذا وحده سبب كافٍ لأن يكون المجتمع كله حارسًا للمشاهد لا شاهدًا على سقوطه. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى