
الجنون الرقمي
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن تمرض النفس في عالمٍ لا جسد له؟ وهل يملك القانون أن يُحاكم إنسانًا كان يعيش لحظة اضطرابٍ بين واقعٍ حقيقي وواقعٍ رقمي صنعته أصابعه؟ وهل يحق للقاضي أن يُدين عقلًا أرهقته الشاشات حتى تلاشى فيه الحد بين الوعي والافتراض؟ أسئلة لم تكن لتُطرح قبل عقدٍ أو اثنين، لكنها اليوم تتسلل إلى قلب الفكر الجنائي المعاصر لتكشف عن ملامح مرحلة جديدة من الوجود الإنساني: مرحلة الجنون الرقمي، حيث لم تعد النفس كيانًا بيولوجيًا خالصًا، بل أصبحت فضاءً متداخلًا بين الأزرار والرموز والصور، وغدا العقل ميدانًا لصراعٍ خفي بين الإنسان والتكنولوجيا، بين الواقع والمعنى، بين الذات وصورتها على الشاشة.
كان القانون الجنائي عبر العصور يحاكم الأفعال التي تصدر عن وعيٍ وإرادة، لكنه لم يتخيل يومًا أن الوعي ذاته قد يختلّ تحت ضغط التفاعل الرقمي المستمر. كيف يمكن للقاضي أن يزن إرادة إنسانٍ باتت محاطة بشبكاتٍ من المؤثرات التي تتسلل إلى إدراكه دون إذن؟ وهل يمكن اعتبار الاضطراب النفسي الناتج عن الانغماس في العالم الافتراضي سببًا لانعدام أو انتقاص المسؤولية الجنائية؟ هنا تبدأ رحلة التساؤل الإنساني والجنائي معًا: رحلةٌ في أعماق النفس حين تُختبر في عالمٍ لا ملامح له، وحين يُصاب العقل بنوعٍ جديد من الجنون لا تصاحبه الهلاوس، بل الانفصال عن الواقع في صمتٍ مضيء بشاشاتٍ زرقاء.
المرض النفسي الرقمي لم يعد اصطلاحًا غامضًا في دراسات علم النفس الجنائي الحديث، بل صار توصيفًا لحالةٍ واقعية يعيشها ملايين الأفراد حول العالم. الشاب الذي ينعزل في غرفته لساعات أمام الألعاب الإلكترونية يفقد تدريجيًا الشعور بالزمن، ويختلط عليه الواقعي بالافتراضي حتى يصبح الفعل العدواني في اللعبة سلوكًا عاديًا بلا وزنٍ أخلاقي. والفتاة التي تُقارن نفسها يوميًا بصورٍ مثالية على المنصات تدخل دوامة من الاكتئاب الرقمي تُغيّر نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخرين. تلك ليست مشاهد درامية، بل حقائق ميدانية ترصدها دراسات في فرنسا وبريطانيا ومصر والإمارات، حيث تؤكد التقارير أن البيئة الرقمية خلقت أنماطًا جديدة من الاضطرابات يصعب تصنيفها وفق المفاهيم النفسية أو القانونية التقليدية.
وحين تنتقل هذه الحالات من فضاء الاضطراب إلى ميدان الجريمة، يصبح السؤال أكثر خطورة: كيف يتعامل القانون مع إنسانٍ ارتكب جريمة في لحظة اختلال إدراك ناجم عن الجنون الرقمي؟ فالقانون لا يُعفي إلا من فقد وعيه أو إرادته، لكن ماذا عن ذاك الذي تاه وعيه بين واقعين، أحدهما ملموس والآخر متخيل؟ في بريطانيا مثلًا، عُرضت على القضاء قضايا ارتكب فيها الجناة أفعالًا عدوانية بعد انغماسهم المرضي في ألعاب الواقع الافتراضي، وقرر بعض الخبراء أن المتهم كان يعيش حالة “انفصال إدراكي” تام. وفي فرنسا، ناقشت المحاكم “الإدمان الرقمي القهري” كعاملٍ مؤثرٍ في المسؤولية. أما في العالم العربي، فما زال المشرّع مترددًا في الاعتراف بهذه الظاهرة، رغم اتساع آثارها على البنية النفسية والسلوكية للمجتمع الحديث.
وهنا تتجلّى مسؤولية الفقيه الجنائي الحقيقي، الذي لا يكتفي بقراءة النصوص، بل يستقرئ نبض الواقع. فالقانون – مهما بلغت دقته- يظل أداة عدلٍ لا تحقق غايتها إلا إذا فُهم الإنسان في تعقيده الكامل. إن التعامل مع الجنون الرقمي لا يعني تبرير الجريمة، بل إعادة تعريف المسؤولية في زمنٍ تغيّر فيه الإدراك ذاته. فالمسؤولية ليست مفهوماً جامدًا، بل مرآةٌ لمدى حرية الإرادة وسلامة الوعي عند ارتكاب الفعل. وإذا كان الاضطراب الرقمي يُضعف السيطرة على الدوافع أو يُشوّش الإدراك، فإن القاضي مطالب بالنظر إليه كمرضٍ نفسيٍ جديد، وُلد من رحم التكنولوجيا لا من خللٍ عضوي.
العدالة الحقة لا تقتصر على الردع، بل تقوم على الفهم. وما لم نفهم كيف تُعيد البيئة الرقمية تشكيل وعي الإنسان، فإننا نحاكم أشباحًا لا أشخاصًا. فحين يغرق الجاني في عالمٍ افتراضي تختلط فيه الحقائق بالرموز، يصبح فعله انعكاسًا لاضطرابٍ نفسيٍ جديد لا تلتقطه أدوات القانون التقليدية. من هنا تبرز الحاجة إلى فقهٍ نفسيٍ جنائيٍ رقمي يجمع بين علم النفس السيبراني وفلسفة المسؤولية الجنائية، ويمنح القاضي أدواتٍ جديدة لفهم طبيعة الفعل والفاعل في هذا العصر المتحوّل.
ولعل المثال الأوضح هو الجرائم الناتجة عن التحريض أو الضغط الافتراضي. كم من شابٍ ارتكب فعلًا إجراميًا تحت وطأة “التنمر الإلكتروني” أو المقارنة الدائمة على وسائل التواصل؟ هذه الحالات تكشف عن صراعٍ داخلي بين الذات الرقمية والذات الواقعية، صراعٍ يُنتج تشوشًا إدراكيًا يقود إلى سلوكٍ غير متزن. ومع ذلك، لا يمكن إسقاط العقاب كليًا، لأن العدالة لا تُبنى على التعاطف، بل على التوازن بين حماية المجتمع وفهم ضعف الإنسان.
ولأن النفس حين تُرهق في الفضاء الرقمي لا تفقد توازنها فحسب، بل تُصاب بانفعالاتٍ جديدة تولد من رحم المقارنة المستمرة، فإن الغيرة الرقمية والحقد الافتراضي أصبحا من أبرز أعراض هذا الجنون الجديد. فبين كل صورةٍ ومنشورٍ، يتكوّن لدى البعض شعورٌ دفين بالحرمان يتحوّل تدريجيًا إلى حقدٍ مموّه بالإحباط، ثم ينفجر في صورة عدوانٍ لفظي أو فعلي. لقد تحولت المنصات إلى مسرحٍ للانفعالات النفسية الخطرة؛ فكم من علاقةٍ إنسانية أو زوجية أو مهنية تفككت تحت ضغط المقارنة بما يُعرض على الشاشات؟
الغيرة والحقد الرقميان لم يعودا مجرد انفعالاتٍ عابرة، بل قد يبلغان حدّ الاضطراب المؤثر في السلوك الإجرامي. تشير دراسات علم النفس الجنائي إلى أن الغيرة الرقمية تُغذي جرائم إلكترونية مثل التشهير والابتزاز والاختراق ونشر الشائعات. كثيرٌ من هذه الأفعال لا يصدر عن نيةٍ إجراميةٍ صريحة، بل عن شعورٍ بالظلم أو الدونية أو رغبةٍ في إثبات الذات في عالمٍ يقيس القيمة بعدد المتابعين. أما الحقد الرقمي، فيتحوّل إلى وسيلة انتقامٍ رمزي، حين يعجز صاحبه عن المواجهة الواقعية، فيستعيض عنها بعنفٍ افتراضي، كما رصدت المحاكم الأوروبية في قضايا “الانتقام الإلكتروني” بعد خلافاتٍ عاطفية أو مهنية.
هذه الانفعالات السلبية لا تقتصر على المجال الإجرامي، بل تمتد إلى العلاقات الإنسانية في عمقها. فالمجتمع الرقمي أعاد تشكيل مفهوم الذات، فغدت تُقاس بالظهور لا بالجوهر، مما زاد من هشاشة الروابط الاجتماعية. أصبح الصديق يغار من صديقه، والزوج من هاتف زوجته، والطالب من زميله الأكثر شهرة، فتحوّل التواصل الذي وُجد ليقرّب الناس إلى مصدر توترٍ دائم. كل هذا يُنتج بيئة خصبة لاضطراباتٍ نفسية تنفجر أحيانًا في لحظة غضبٍ رقميٍ واحد، لكنها تُدمّر حياة إنسانٍ كاملة.
هكذا يكشف الجنون الرقمي عن وجهه الخفي: ليس فقط في الاكتئاب أو العزلة، بل في الغيرة التي تُغذي الكراهية، والحقد الذي يختبئ خلف صورٍ لامعة. وهذه الظاهرة لا تهدد العدالة فحسب، بل تمس النسيج الاجتماعي ذاته، إذ تُولّد دوافع جديدة للجريمة يصعب إثباتها أو قياسها، لأنها وليدة عالمٍ من الانفعالات التي يغذيها “الوهم الرقمي”. ولذلك، فإن العدالة المعاصرة مطالبة بأن تُدرك أن الجريمة اليوم ليست فقط فعلًا، بل انعكاسًا لاضطرابٍ في الوعي تشكّله التكنولوجيا لحظةً بلحظة.
وهنا تتجلى عظمة القضاء حين يكون حيًّا بالإنسان لا متجمّدًا في النص. فالقاضي الذي يُدرك أثر الجنون الرقمي لا يحكم بالعقوبة فقط، بل يفتح بابًا للفهم والعلاج، ويُعيد تعريف الردع بوصفه إصلاحًا لا انتقامًا. لقد آن الأوان لأن يعترف الفكر القانوني بأن التكنولوجيا لم تغيّر أدوات الجريمة فقط، بل غيّرت الإنسان ذاته. والعدالة الحقيقية هي التي تستطيع احتواء هذا التحوّل دون أن تفقد جوهرها الإنساني، لأن الإنسان- حتى في لحظة خطئه- يظل كائنًا يستحق الفهم قبل الإدانة، والعلاج قبل العقاب.
وحين نعود إلى الأسئلة الأولى التي بدأنا بها – هل تمرض النفس في عالمٍ لا جسد له؟ وهل يمكن للقانون أن يُحاكم عقلًا تاه بين الواقع والافتراض؟- نجد أن الإجابة تتجسد الآن بوضوح: نعم، العقل يجنّ رقميًا كما يجنّ عضويًا، والوعي قد يختلّ كما يختلّ الجسد، والقانون العادل هو الذي يُدرك هذا الجنون لا ليبرره، بل ليُحاكمه بفهمٍ وإنسانية. هكذا تكتمل الحلقة بين السؤال والإجابة، بين الفكر والوجدان، بين النص والإنسان. فالعدالة ليست ميزانًا من حديد، بل ضميرٌ حيّ يتّسع لعقلٍ مريضٍ بالضوء الرقمي، دون أن يتنازل عن حماية المجتمع من الانحراف. تلك هي مهمة الفقيه الجنائي في هذا العصر: أن يُصغي إلى نبض الإنسان الجديد في زمنٍ تغيّر فيه معنى الوعي نفسه، وأن يجعل من القانون مرآةً للإنسان لا سيفًا عليه. والله من وراء القصد.