الجريمة في الأمثال الشعبية.. حاميها حراميها

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

«حاميها حراميها» من الأمثال الشعبية المتداولة كثيراً على الألسنة. وعلى حد علمي، يمكن أن نصادف استعمال هذا المثل في كل المجتمعات العربية بلا استثناء. بل إن هذا المثل قد يكون موجوداً في العديد من المجتمعات الأجنبية الناطقة بغير العربية.

 

ورغم أن الأمثال الشعبية يغلب عليها استخدام الألفاظ العامية، باعتبار أنها نتاج الثقافة الشعبية العامة وتشكل أحد مظاهر وأشكال التراث الشعبي، فإن المثل الشعبي القائل «حاميها حراميها» يتسق تماماً مع قواعد اللغة العربية الفصحى. بيان ذلك أن تعبير «حاميها حراميها» هو تعبير مولد من الفصيح. فالحامي هو المانع من الشيء، وهي كلمة فصيحة. وأما «حراميها»، فهي كلمة مولدة من مرتكب الحرام، فقد نسبوا اللص للحرام، واشتقوا له اسماً منه وخففوا ياء النسبة فيه ليتجانس مع «حاميها»، وذلك جائز لغوياً لكن فيه عدولاً قليلاً عن الأصل، ومثله في اللغة كثير. وتسمية اللص بالحرامي مثل تسمية «السني» نسبة إلى السنة، و«الشيعي» نسبة إلى الشيعة، ومرتكب البدعة بالبدعي.

 

قصة المثل

تعود قصة هذا المثل إلى فترة الحكم العثماني للدول العربية، حيث قرر ثلاثة من طالبي العلم السفر الى بغداد في ولاية العراق آنذاك، لزيارة ضريح أحد الأولياء الصالحين، وأخذوا معهم مالاً كثيراً للإنفاق على الرحلة، ولكنهم ضلوا الطريق وفجأة صادفهم شخص تبدو عليه علامات الطيبة والابتسامة تملأ وجهه ولا تفارق شفتيه ويجيد فن الكلام المعسول والحديث الطيب، للدرجة التي جعلتهم يتوهمون ويقتنعون بأن العناية الالهية هي التي أرسلت هذا الشخص لهم ولم يدر بخلد وفكر أحدهم لحظة واحدة أن هذا الرجل نصاب. إذ ليس من المعقول الشك في رجل بهذه الصفات. وساروا جميعاً في طريقهم بصحبة هذا الرجل، وبعد بضع ساعات اختفى الرجل وكأن الأرض قد انشقت وابتلعته بعد أن سرق كل ما لديهم من أموال، وظلوا يبحثون عنه حتى عثروا عليه، فحاول الهرب، ولكنه لسوء حظه كانت تمر أمامه فرقة من الجنود ألقت القبض عليه وتم ترحيله الى الحاكم الذي استقبلهم بحفاوة وكان بشوشاً أيضاً، وسمع منهم القصة من الألف الى الياء، فطلب من الجميع مغادرة الغرفة حتى يستجوب السارق على انفراد، وكان هناك رجل بغدادي طيب القلب يراقب ما يجرى حوله. وبعد حوالي ساعة، خرج الحاكم وهو يصيح في وجه المجني عليهم، مؤكدا لهم أنه لم يجد مع الرجل أي مسروقات، وخرج تاركاً المجلس. وهنا قال لهم البغدادي دعوني أتحدث مع اللص على انفراد، وبالفعل جلس معه وقال له لو قمت برد المال الحرام لأصحابه، سوف أعطيك قطعة ذهبية حلال، فأخبره أن الجنود أجبروه على عدم الاعتراف، كما أن الحاكم هدده بالإعدام لو قام برد المبلغ. فقال له البغدادي حقاً «حاميها حراميها»، ولكن يا بنى «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فخرج اللص ورد المبلغ الى أصحابه، وصارت هذه هي قصة المثل الشعبي «حاميها حراميها» الذي تتناقله الأجيال حتى الآن.

 

انطباق المثل على الجرائم المالية والجرائم غير المالية

رغم أن صيغة المثل توحي باقتصار مدلوله على جرائم الأموال فحسب، فإن هذا المثل يمكن أن ينطبق كذلك على العديد من الجرائم غير المالية، حيث يكون الجاني هو نفسه الشخص المنوط به حماية المجني عليه، كما يحدث حالياً حينما نسمع عن قيام الأب باغتصاب ابنته، بدلاً من أن يكون حامياً لها حريصاً على عفتها وشرفها وطهارتها.

 

ولا يقتصر الأمر على جرائم الاغتصاب وجرائم العرض بوجه عام، وإنما يمكن أن نجد تطبيقاً لهذا المثل في جرائم القتل، وبصفة خاصة جرائم اغتيال رجال السياسة والشخصيات العامة. وللتدليل على ذلك، يبدو من المناسب الإشارة إلى واقعة اغتيال رئيسة الوزراء الهندية الراحلة، أنديرا غاندي، على يد اثنين من حراسها الشخصيين. ففي الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1984م، أقدم حارسان شخصيان على استهداف أنديرا غاندي برصاصات قاتلة بحديقة منزلها، تزامناً مع قيام المخرج البريطاني «بيتر أوستينوف» (Peter Ustinov) بتصوير فيلم وثائقي عن حياتها. وقد حدثت واقعة الاغتيال رداً على قيام الجيش الهندي في الخامس من يونيو 1984م باقتحام المعبد الذهبي لطائفة السيخ وفتح النار على المتواجدين بداخله متسببا في سقوط مئات القتلى كان من ضمنهم عدد هام من الحجاج، الأمر الذي أسهم في ازدياد حدة النزاع والصراع بينها وبين المجموعات الدينية السيخية التي تتواجد بشكل رئيسي في مناطق البنجاب.

 

وفي نطاق طائفة أخرى من الجرائم، ونعني بذلك جرائم تهريب المخدرات، وفي جمهورية موريتانيا الإسلامية، وفي التاسع من شهر يوليو 2007م، تم توقيف رئيس قسم الشرطة الدولية «الانتربول» في موريتانيا آنذاك، الضابط أحمد ولد سيد أحمد، بتهمة التورط في عمليات تهريب المخدرات. ونقلت يومية «العلم» الموريتانية عن مصادر قضائية قولها إن مفتش الشرطة، أحمد ولد سيدي أحمد، وهو ابن شقيق الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، كان يوفر الحماية لعصابة تهريب مخدرات تضم موريتانيين وأجانب.

 

وفي المملكة المغربية، وفي الأول من مارس 2022م، أصدرت محكمة مغربية في الرباط حكما بسجن ضابط شرطة كان يعمل بحرس الحدود بطنجة بالسجن عشر سنوات بعد إدانته بالضلوع في نشاط عصابة إجرامية امتهنت الاتجار بالمخدرات. كما أصدرت المحكمة حكما بإدانة شقيق موظف الشرطة المذكور بسنتين حبسا نافذا، بعد ثبوت تورطه هو الآخر في أفعال المشاركة في ارتكاب هذه الأفعال الإجرامية. وكانت الشرطة في طنجة، قد أحالت الضابط الموقوف وشقيقه وثلاثة أشخاص آخرين إلى النيابة العامة المختصة، للاشتباه في تورطهم في أنشطة شبكة إجرامية لها ارتباط بترويج المخدرات القوية، حيث تمت متابعتهم في حالة اعتقال قبل أن تصدر هيئة المحكمة أحكامها في هذه القضية. وأشارت الشرطة، إلى أن توقيف هؤلاء المشتبه فيهم جاء في أعقاب عملية أمنية باشرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على ضوء معلومات دقيقة وفرتها مصالح المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، وذلك في إطار جهودها لمواجهة مخاطر الجريمة بجميع صورها وأشكالها.

 

تشدد السياسة التشريعية في مواجهة حاميها حراميها

على كل حال، وسواء تعلق الأمر بجرائم الأموال أم بغيرها من الجرائم، فإن الجاني في مثل هذه الأحوال يجد سهولة في ارتكاب جريمته. وإزاء ذلك، وحيث إن مثل هذا الشخص يكون قد خان الأمانة المنوطة به، وأقدم على سرقة المال أو الاعتداء على المجني عليه، بدلاً من توفير الحماية له، لذا فقد تشدد القانون الجنائي في مواجهته، مقرراً تشديد العقوبة بالنسبة له مقارنة بغيره من الجناة. فالقاعدة المستقرة في السياسة التشريعية الجنائية هي أنه «كلما كان ارتكاب الجريمة سهلاً، كلما تشدد المشرع في عقاب مرتكبها». والتطبيقات على ذلك عديدة ومتعددة. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بالاعتداء على المال العام، يشدد المشرع عقوبة اختلاس المال العام، بحيث يقرر للجاني عقوبة أشد من عقوبة الاستيلاء على المال العام. ففي حالة اختلاس المال العام، تكون العقوبة هي السجن المشدد (المادة 112 من قانون العقوبات المصري)، بينما تكون عقوبة الاستيلاء على المال العام هي السجن المشدد أو السجن (المادة 113 من قانون العقوبات المصري). وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الفرض في جريمة الاختلاس هو أن المال محل الجريمة موجود في حيازة الجاني بسبب وظيفته.

 

وفيما يتعلق بجرائم الأموال أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن المشرع يقرر لجريمة خيانة الأمانة عقوبة أشد من عقوبة السرقة. ففي جريمة خيانة الأمانة، تكون العقوبة هي الحبس الذي يمكن أن يصل إلى الحد الأقصى العام له، وهو ثلاث سنوات (المادة 341 من قانون العقوبات المصري). أما في جريمة السرقة البسيطة، فإن العقوبة هي الحبس مع الشغل مدة لا تتجاوز سنتين (المادة 318 من قانون العقوبات المصري). وقد يرى البعض أن «الحبس مع الشغل» أشد من «الحبس البسيط»، ولو كان الحبس مع الشغل أقل مدة. والواقع أن الشغل هنا تقرر من وجهة نظري في مواجهة السارق، تعويداً له على العمل، وبحيث يسعى إلى كسب رزقه من عمل يده بعد الإفراج عنه، بدلاً من اللجوء إلى السرقة كمهنة له.

 

وفيما يتعلق بالجرائم غير المالية، يلاحظ أيضاً أن المشرع يشدد العقوبة إذا كان حاميها حراميها. ففي جريمة الاغتصاب، على سبيل المثال، يعاقب الجاني المغتصب بالإعدام أو بالسجن المؤبد، بحيث يجوز للقاضي الاختيار بين هاتين العقوبتين (المادة 267 من قانون العقوبات المصري، مستبدلة بالمرسوم بقانون رقم 11 لسنة 2011). ولكن، العقوبة تكون هي الإعدام وجوباً، إذا كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادماً بالأجرة عندها أو عند من تقدم ذكرهم (المادة 267 من قانون العقوبات المصري، مستبدلة بموجب المرسوم بقانون رقم 11 لسنة 2011م). والأمر ذاته ينطبق على جريمة هتك العرض، حيث يشدد المشرع عقاب الجاني إذا كان أحد الأشخاص السالف ذكرهم (المادة 268 من قانون العقوبات المصري).

زر الذهاب إلى الأعلى