الجريمة في الأمثال الشعبية.. المال السايب يعلم السرقة

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

«المال السايب يعلم السرقة» هو أحد الأمثال الشعبية المتداولة كثيراً على الألسنة. وهذا المثل معروف في بعض الدول العربية، مع تعديل بسيط في الصياغة، بحيث تجري عباراته كما يلي: «الرزق السايب يعلم الناس الحرام». بل إن لهذا المثل نظير في اللغة الإنجليزية، ونعني بذلك المثل الشعبي الشهير أو القول المأثور (the hole calls the thief)، ويعني أن المجرمين وذوي السلوكيات الشريرة يذهبون إلى حيث تكون الفرصة سانحة لتحقيق أغراضهم غير المشروعة.

Criminals and other wrong-doers will go where opportunity presents itself.

 

ولعل هذا التشابه بين المجتمعات بعضها البعض يؤكد من وجهة نظرنا على مبدأ «وحدة الحضارات»، وليس «صراع الحضارات» كما يقول ويزعم البعض.

 

ورغم أن الأمثال الشعبية يغلب عليها استخدام الألفاظ العامية، باعتبار أنها نتاج الثقافة الشعبية العامة وتشكل أحد مظاهر وأشكال التراث الشعبي، فإن المثل الشعبي القائل «المال السايب يعلم السرقة» يتسق تماماً مع اللغة العربية الفصحى. وإذا كان البعض قد يتوهم أن كلمة «السايب» هي كلمة عامية، فالرد على ذلك أن هذا اللفظ له أصل في المعاجم اللغوية. ففي معجم اللغة العربية المعاصرة، نجد اللفظ «تسيب» أو «تسيُّب» في صيغة المفرد، ويعني «إهمال وانعدام الضَّوابط، ضعف الالتزام بالقوانين، فوضى واضطراب “التَّسيُّب الإداريّ يؤدِّي إلى الفوضى». وإذا كان الأصح أن يقال «سائب»، إلا أن البعض يجيز إبدال الياء بالهمزة.

 

قصة المثل

تعود قصة المثل الشعبي سالف الذكر إلى بعض الأشقاء من ملاك الأراضي الزراعية، والذين أوكلوا إلى أحد المزارعين مهمة رعايتها وخدمتها، مقابل حصة يأخذها من الثمار والمزروعات. ولأن الملاك كانوا يسكنون في مدن بعيدة عن مكان الأرض المملوكة لهم، لذا كانوا لا يرتادون هذه الأرض، ولا يعلمون شيئاً عنها، مكتفين بما يرسله المزارع إليهم، مصدقين ما يدعيه لهم بأن الأرض لا تنتج من الثمار الكثير، وذلك خلافاً للحقيقة حيث كانت الأرض تنتج الكثير من الثمار. ومع ذلك، كان المزارع لا يبعث إليهم سوى الفتات، مستأثراً لنفسه بالنصيب الأكبر. وبعد مرور عدة سنوات على هذه الحال، تصادف أن التقى أحد الملاك مع أحد سكان القرية، فسأله عن أحوال القرية وحال الأرض المملوكة لهم، متسائلاً عما إذا كان العطش فعلاً قد أهلك الزرع، ففوجئ بأن الأمر مختلف تماماً وأن الخير يعم القرية منذ عدة سنوات، وأن أراضيهم تطرح ثماراً طائلة، وأن الفلاح الذي يخدمها قد اغتنى ويكاد يملك معظم أراضي القرية، بسبب ما يأخذه من وراء زراعة أراضيهم. وإزاء ذلك، ومن هول المفاجأة، أخذ هذا المالك يضرب كفاً بكف، ملقياً باللوم كله على نفسه وعلى أشقائه، قائلاً إن «المال السايب يعلم السرقة»، ومعترفاً ومقراً بالتالي بأنهم من أخطأوا بثقتهم العمياء في الفلاح، دونما أدنى رقابة أو متابعة من قبلهم.

 

المال السايب والمال المفقود

كلمة «السايب» في هذا المثل مقصود بها الإهمال واللامبالاة وانعدام الرقابة والمحاسبة. وينبغي التمييز بين هذه الحالة وبين حالة «المال المفقود»، حيث يكون المال قد خرج من حيازة صاحبه، دونما أي إرادة من جانبه، وأصبح خارجاً عن حيازته لا يعلم عنه شيئاً، وقد يتحقق ذلك دون أدنى تقصير أو إهمال من جانبه.

 

المال السايب والمال المتروك

كذلك، ينبغي التمييز بين حالة «المال السايب» وبين حالة «المال المتروك». إذ يؤكد شراح القانون المدني على أن المنقول يصبح بغير مالك، إذا تخلى عنه مالكه بقصد التخلي عن ملكيته. فالشيء المتروك هو ما استغنى عنه صاحبه بالتخلي عن حيازته، وبنية إنهاء ملكيته عليه، فيعتبر بعد ذلك لا مالك له. وقد عرفت محكمة النقض المصرية «المال المتروك» بأنه «الشيء الذي يستغني عنه صاحبه بإسقاط حيازته، وبنية إنهاء ما كان عليه من ملكية، فيغدو بذلك لا مالك له». فإن استولى عليه شخص آخر، لا يعتبر سارقاً. ومثال الأشياء المتروكة الملابس التي تخلى عنها أصحابها، والأمتعة البالية التي يرميها أو يلقيها أصحابها في الطريق العام. فمن عثر على شيء في الطريق من قبيل المهملات وأخذه، فلا يعد سارقاً.

 

وتطبيقاً لما سبق، قضت محكمة النقض المصرية بأن «من المقرر أنه إذا تمسك المتهم بأن المنقولات محل دعوى الشروع في السرقة هي من المتروكات ولم يعد لها مالك، بعد أن تخلت الشركة عنها، ثم أدانته المحكمة بعقوبة الشروع في سرقتها، دون أن تتعرض لهذا الدفاع وترد عليه، فحكمها يكون معيباً بالقصور في البيان، ولا يقلل من هذا أن تكون لتلك المنقولات قيمة، إذ يمكن بيعها في المزاد لحساب الخزانة، فإنه لا يشترط في الشيء المتروك أن يكون معدوم القيمة، بل يجوز في القانون أن يعد الشيء متروكاً، فلا يعتبر من يستولي عليه سارقاً، ولو كانت له قيمة تذكر، مما يعيب الحكم بما يوجب نقضه والإعادة في خصوص جريمة الشروع في السرقة، وكذا في جريمة البلاغ الكاذب المرتبطة بها» (نقض 26 مارس سنة 2000م، الطعن رقم 22316 لسنة 65 القضائية، مجموعة الأحكام، رقم 62، ص 241).

 

والعبرة في اعتبار الشيء متروكاً من عدمه هي بواقع الأمر من جانب المتخلي عن المال وليس بما يدور في خلد الجاني والتحري عن هذه الحقيقة يدخل في سلطة قاضي الموضوع الذي يبحث في الظروف التي يتبين منها أن الشيء متروك أم لا، والمصدر القانوني لصيرورة الشيء متروكا هو «التخلي»، وقوامه عنصران: عنصر مادي، وهو إخراج الشيء من الحيازة وعنصر معنوي، هو نية النزول عن حق الملكية الثابت على الشيء ولا يحول دون اعتبار الشيء متروكا أن تكون قيمته كبيرة، طالما أن نية التخلي عن الملكية ثابتة، ولا يحول كذلك دون اعتبار الشيء متروكا أن ترخص السلطات العامة لشخص بالاستيلاء على الأشياء المتروكة في مكان معين، ذلك أنه لا يتملكها إلا إذا استولى عليها بالفعل، وترتيباً على ذلك، إذا رخصت السلطة العامة لشخص بجمع القمامة من شوارعها ولكن شخصا آخر استولى على أشياء منها قبل جمعها، فلا يكون هذا الشخص الآخر مرتكباً لجريمة السرقة.

 

المال السايب بين جريمة السرقة وجريمة خيانة الأمانة

إذا كان مالك الأرض في هذه القصة قد استخدم لفظ «السرقة»، فإن السلوك الإجرامي المنسوب إلى المُزارع أو الفلاح في هذه الحالة هو «خيانة الأمانة»، وليس «السرقة». إذ تفترض جريمة السرقة انتزاعاً للشيء من حيازة مالكه، الأمر الذي لا يتوفر في قصة المثل سالف الذكر. في المقابل، فإن جريمة خيانة الأمانة تفترض أن المال المنقول موضوع الجريمة كان من قبل في حيازة الجاني، بناء على سبب مشروع، وأنه قد سلم إليه تسليماً صحيحاً صادراً عن إرادة معتبرة قانوناً. ويقوم الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بفعل يكشف عن إرادة المتهم تحويل صفته على الشيء من أمين عليه لحساب صاحب الحق فيه إلى مغتصب لملكيته (راجع في الفروق بين جريمة خيانة الأمانة وجريمتي السرقة والنصب: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2012م، رقم 1530، ص 1270).

 

الجدل حول مدى إسهام المثل في المنظومة القيمية المجتمعية

إذا كان القصد من وراء المثل الشعبي القائل إن «المال السايب يعلم السرقة» هو حث أصحاب الأموال على المحافظة على أموالهم، فلا يتركوها نهباً لكل طامع فيها أو من تسول له نفسه الاعتداء عليها، وذلك من خلال بسط الرقابة والإشراف عليها، وبحيث لا تكون لقمة سائغة لمن سلموهم إياها، فإن البعض قد يرى فيه نوعاً من التحريض لأصحاب النفوس الضعيفة بأن يستحلوا أموال الآخرين، وأن يستسلموا لنزواتهم وأطماعهم، طالما أن صاحب المال لا يدري أي شيء عنه، وأن الفرصة سانحة للاستيلاء عليه.

 

وفيما يتعلق بالجدل أو الخلاف سالف الذكر، ولزيادة الأمر وضوحاً، قد يكون من الملائم إلقاء الضوء على بعض الأمثال الشعبية النظيرة أو الشبيهة أو التي تصب في الاتجاه القيمي ذاته. فكما يقولون، بالمثال يتضح الحال. وإذا كان هذا المثل يُضرب للتأكيد على ضرورة الحفاظ على الأموال وتكثيف الرقابة عليها، حتى لا تكون عرضة للسرقة، فإن ثمة بعض الأمثال الشعبية الأخرى التي تصب في المعنى ذاته، نذكر منها المثل الشعبي القائل «حرص ولا تخون». وتستخدم بعض الشعوب العربية مثلاً شبيهاً، وهو «اقفل باب دارك وما تخوّنش جارك». ويقال هذا المثل في حالة تقديم النصيحة بضرورة التعامل مع الآخرين بحرص وحذر، دون أن يصل الأمر إلى حد التخوين. وكما هو واضح، فإن هذا المثل يؤكد على أهمية الحذر في التعامل مع الأشخاص، مميزاً بين فضيلة الحذر أو الحرص وبين رذيلة التخوين والشك بالأشخاص. وغني عن البيان أن هذه الأمثال النظيرة للمثل الشعبي القائل المال السايب يعلم السرقة تحقق الهدف المنشور من وراء هذا المثل الأخير، مع وضوح في القصد، وبدون أن يرى فيه البعض رسالة تحريضية على السرقة.

 

المال السايب وزيادة العبء على أجهزة إنفاذ القانون

لا شك أن إهمال أو تقصير المالك في الحفاظ على ماله وبسط الرقابة عليه من شأنه الاسهام في وقوع الجريمة أو على الأقل تيسير اختلاس هذا المال. ولا جدال في أن إهمال المالك أو تقصيره يلقي عبئاً ثقيلاً على كاهل سلطات إنفاذ القانون، وبحيث تجد نفسها مطالبة بتعقب الجرائم الواقعة على المال السايب وملاحقة مرتكبيها وإنفاذ كلمة القانون في شأنهم. وغني عن البيان أن المهام المنوطة بسلطات إنفاذ القانون في المجتمعات المعاصرة مما تنوء بحمله، ويتطلب تعاوناً من الجمهور والأفراد في تعقب المجرمين، فلا يقبل ولا يعقل أن يسهم الأفراد أنفسهم في تيسير مهمة الجناة.

 

وانطلاقاً مما سبق، وإذا كان من غير المقبول أن تتقاعس جهات إنفاذ القانون عن تعقب الجرائم الواقعة على المال السايب كما يقولون، فإن التساؤل قد يثور عن مدى جواز توقيع نوع من الجزاء على المالك المهمل الذي لا يبذل عناية الرجل المعتاد في الحفاظ على أمواله وبسط رقابته عليها. وبعبارة أخرى، فإن التساؤل قد يثور عن مدى جواز تحميل المالك المقصر أو المهمل النفقات التي تكبدتها جهات إنفاذ القانون في سبيل كشف الجريمة وضبط مرتكبيها. فعلى سبيل المثال، إذا ترك أحد الأشخاص سيارته غير مغلقة الأبواب وفي وضع التشغيل، وذهب لشراء شيء ما من أحد المحال العامة المجاورة، فجاء شخص آخر وسرق السيارة، فإن التساؤل يثور في مثل هذه الحالة عما إذا كان من الملائم أن يتحمل مالك السيارة نفقات البحث عنها بواسطة الشرطة وضبط مرتكبيها، منظوراً في ذلك إلى أنه تسبب بإهماله وتقصيره في جريمة السرقة أو على الأقل تيسير ارتكابها. والواقع أن هذا التساؤل ليس تساؤلاً نظرياً، وإنما تم طرحه فعلاً في إحدى دوائر صنع القرار في إحدى الدول العربية، حيث ذهب رأيي إلى أنه لا يوجد ما يمنع قانوناً من تحميل مثل هذا الشخص النفقات التي تسبب فيها بإهماله، وأن المبادئ القانونية العامة تشفع لمثل هذا الرأي.

زر الذهاب إلى الأعلى