الثقافة المنشودة لصناعة مُحام مُتميز (1 – 3)

بقلم: د. حمدي أبو سعيد
(1)
مدخل مُهم:
الثقافة هي جُزء من حياة الإنسان وحياة المجتمعات التي لا يُمكن أن تحيا بدونها، وهي شُريان حياة الأمم وغذاؤها النافع ودواؤها الناجع الذي لا يُمكن أن تعيش بدونه، أو أن يكون لها موقع بين الأمم يجعلها في مصاف المجتمعات والأمم الراقية المتقدمة بدونها، لذا فإنَّه لا يُمكن فصل الثقافة عن حياة الانسان والمجتمعات والأمم والشعوب، فالثقافة والحضارة وجهان لعملة واحدة، فلا ثقافة بدون حضارة، ولا حضارة بدون علم وثقافة، ولكل مجتمع طريقته ووجهته في الحياة التي تُعبر عن هُويَّته وشخصيَّته الذاتية وخصوصيته الحضارية التي يستمدها من دينه وعقائده وتاريخه وثقافته وحضارته الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، هذه الهُوية أو الثقافة الذاتية أو الخصوصية الحضارية هي التي تُميزه عن غيره من الأمم والمجتمعات البشرية والحضارات المختلفة، ومن هُنا تكمن أهمية تناول موضوع الثقافة المتميزة التي تُساهم في صناعة رجل قانون مُتميز مُحاميًّا كان أم قاضياً ..
(2)
حول مفهوم الثقافة
شاع استعمال مصطلح “الثقافة” في عصرنا الحاضر في مجال الحديث والتعليم والتأليف والكتابة والمحاضرات والندوات وغيرها؛ فيُقال: فُلان مُثقف، وفُلان غير مُثقف، وفُلان ثقافته واسعة، وفلان ثقافته ضحلة أو سطحية، ويُقال: الثقافة القانونية، والثقافة الإسلامية، والثقافة العربية، والثقافة الغربية .. فما هو المراد بالثقافة؟ ، وما هو مفهوم كلمة “ثقافة”؟ ..

وبالتأكيد فإن الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً، لتعدد التعريفات التي عرَّفت بهذا المصطلح، وعلى الرغم من كثرة المؤلفات والمحاضرات والندوات والمؤتمرات التي تبحث في “الثقافة” وشؤونها، فإنها لم تُقدم تعريفاً واحداً مُحدداً لهذا المصطلح، حتى أنَّ منظمة البونسكو وهي المنظمة العالمية المعنية بالشؤون التعليمية والثقافية في العالم ناقشت في مؤتمراتها العالمية قبل سنة 1982م مفهوم “الثقافة”، ولم تستطع تحديد مفهوم واضح مُحدد لمصطلح الثقافة، وانتهت اللجان المختصة في هذه المؤتمرات بإجماع أعضائها على أنَّ هذه الكلمة لا تزال غامضة، وغير مُحددة، على الرغم من كثرة المناقشات والأخذ والرد، وعلى كثرة استعمال وشيوع هذه الكلمة في الأوساط العلمية، ولم تتوصل إلى تعريف مُحدد للثقافة إلاَّ في مؤتمر (ميندياكولت/مكسيكو) بالمكسيك عام 1982م ..

ومن هُنا فقد تعددت التعريفات لمصطلح “الثقافة”، حيث عرَّفها البعض؛ بأنها: ” أسلوب حياة الشعوب” .. وعرَّفها البعض بأنها: “”كل ما صنعه وابتدعه المجتمع من عادات وتقاليد ولغات ومعارف وفنون وآداب وفلكلور وغيره” وعرَّفها أخر بأنَّها: “مجموعة من العلوم والخبرات والتجارب الدينية والاجتماعية التي تُسيّر الفرد نحو الوجهة الصحيحة” .. إلى غيرها من التعريفات واتجاهاتها التي لا يتسع المقال لسردها جميعاً ..
ويُلاحظ هُنا بأن هذه التعريفات غير مُحددة لمفهوم الثقافة؛ فهي تعريفات مطاطة، لا تُعبر بدقة عن المراد من مصطلح :الثقافة”، ومعلوم أنه يُشترط في التعريف أن يكون جامعاً مانعاً، وهذه التعاريف ليست كذلك ..

أقدم التعاريف تاريخيّاً لمصطلح الثقافة:
وإذا أردنا أن نستعرض بعض التعريفات لمفهوم أو مصطلح “الثقافة” من الناحية التاريخية؛ فإنَّ أقدم تعريف لها هو ما ذكره أو قاربه العلاَّمة المسلم “عبد الرحمن ابن خلدون (732هـ – 808هـ) المؤسس الأول لعلم “العمران البشري” أو علم “الاجتماع” كما أطلقوا عليه بعد ذلك؛ فقد وصف الثقافة بأنها: “العُمران الذي هو من صنع الإنسان ، بما قام به من جهد وفكر ونشاط ليسد به النقص بين طبيعته الأولى حتى يعيش عيشة عامرة زاخرة بالأدوات والصناعات” .[ثقافتنا في مواجهة التحديات، أ. عدنان أبو عمشة، ص 46] ..

ويُعد من أقدم التعاريف نسبيِّاً في العصر الحديث وأكثرها شيوعاً، ذلك التعريف الذي وضعه الكاتب الإنجليزي “ادوارد تايلور” عام 1871م، والذي يُفيد بأنّ الثقافة هي: “ذلك المجموع المركّب الذي يتضمن المعارف والعقائد، والفن والأخلاق والحق والقانون، والأعراف والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع” ..

وربّما يكون أحدث مفهوم للثقافة، هو ما جاء في التعريف الذي اتّفق عليه الحاضرون في مؤتمر (السياسات الثقافية) المعروف بمؤتمر (موندياكولت/ المكسيك) حيث جاء في إعلان مكسيكو المؤرخ في (8 أغسطس 1982م)، والذي نصَّ على أنّ الثقافة – بمعناها الواسع – يمكن النظر إليها على أنّها: “جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية، التي تُميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل : الفنون والآداب وطرائق الحياة .. كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونُظم القيم والمعتقدات والتقاليد”. [موقع منظمة اليونسكو/ https://ich.unesco.org/ar/-00309] ..

مفهوم الثقافة بين التعريف اللُّغوي والاصطلاحي:
ومصطلح الثقافة في التعبير الشائع والمتداول في الأوساط العلمية والثقافية يُراد به الأخذ من كُلِّ علم بطرف، ولا يُراد بها التعمق في دراسة علم من العلوم”، أي الاطلاًّع الواعي على شتى صنوف العلوم والمعارف، وتحصيل ما يقدر على تحصيله منها ولو على شكل (مدخل) أو (مُقدمة منهاجية تعريفية شاملة) لمفردات وعناصر العلوم والمعارف التي يحتاجها المثقف في التعامل مع الواقع الذي يعيش فيه؛ كما عبَّر الأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد (1889م – 1964م) عن ذلك بقوله: “تعلَّم شيئاً عن كُلِّ شيء لتكون مُثقَّفاً، وتعلَّم كُلِّ شيءِ عن شيءِ لتكون عالماً” ..
وإذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية فإننا نجد بين هذا المعنى “للثقافة” والمعنى اللُغوي صلة ونسب؛ فالإنسان لا يكون واسع الاطلاع، مُلمَّاً بمختلف العلوم إلاَّ إذا كان “حاذقاً” صاحب فهم جيد وأفق واسع؛ و “الحذق” و “جودة الفهم” هما المحور الذي تدور عليه مادة: ” ثَقُفَ ”
فمصطلح “الثقافة” يرجع في أصله إلى الفعل الثلاثي ” ثقُفَ ” الذي يعني الفطنة، والذكاء، وجودة الفهم، وسعة الأفق، وسرعة التعلم، والحذق، وحُسن الإدراك، والتهذيب، وتسوية الشيء وإقامة اعوجاجه، ويعني هذا المصطلح أيضاً: العلم، والفنون، والآداب، والتعليم، والمعارف.
ويُمكن أن يكون التعريف الاصطلاحي العام لمصطلح “الثقافة”، بأنه: ” مجموعة المعلومات والمعارف والعلوم والفنون والآداب والقِيم الحاكمة للسُّلُوك التي تتطلب الحذق والفطنة وجودة الفهم والذكاء في تحصيلها وإدراكها” ..

مفهوم الثقافة في عُرف القانونيين:
وإذا أردنا أن نُعرف مصطلح الثقافة تعريفاً اصطلاحيَّاً خاصَّاً بالقانونيين؛ فيمكن القول بأنَّ الثقافة بالنسبة إلى رجال القانون يُراد بها: (مجموع المعلومات والمعارف التي ترتبط بالتراث الفقهي الشرعي والقانوني وما يتصل به من المعلومات المتعلقة بعلوم اللغة والآداب العربية واللغات الأجنبية، والعلوم التاريخية والاجتماعية، والإنسانية، والدراسات النفسية، ودراسات الحِجاج والمنطق، ودراسات الطب الشرعيّ والعلوم الطبية المساعدة، وعلوم البلاغة وفنون الخطابة وغيرها من العلوم والمعارف والفنون والآداب التي تتطلب سعة الأفق وجودة الفهم في استيعابها وحسن الاستفادة منها وتوظيفها في خدمة المجال القانوني فقهاً وقضاءً ومُرافعة) ..
فهذا التعريف لمصطلح الثقافة في عُرف القانونين اشتمل على ما ينبغي أن يكون كل من يُريد الاشتغال بالقانون والإبداع والتَّميُّز فيه على اطلاع وإلمام به؛ فالقانوني مُحام كان أم قاضياً، أم كان أستاذا جامعيَّاً أم باحثاً ينبغي أن يكون له اطلاع على علوم اللغة العربية نحواً وصرفاً وبلاغة، وعلى معرفة مُناسبة بالعلوم الاجتماعية من تاريخ، وجغرافيا، واقتصاد، وعلوم سياسية، وعلى تواصل وثيق مع العلوم الإنسانية: الفلسفة، وعلم النفس، وعلوم التربية، وعلم الاجتماع، وأن يكون متمكناً في علوم المنطق والحِجاج وفنون القول والخطابة، وينبغي أن يكون له معرفة أو اتصال بالعلوم الطبية وبخاصة علوم الطب الشرعي، وكذلك علوم الكيمياء والسموم وغيرها، وأن يكون على اطلاع واسع بالفنون والآداب، وأن يسعى جاهداً إلى الاستفادة منها وحسن توظيفها التوظيف الأمثل في خدمة القانون؛ هذا فضلاً عن أهمية بل وجوب تمكنه في الدراسات القانونية من مصادرها الأصيلة والدراسات الشرعية من مراجعها المعتمدة المعنية بأحكام الأسرة، وقضايا التركات والمواريث والوصية وغيرها من الأحكام الشرعية، وسأعرض بمشيئة الله تعالى في المقالات القادمة ما يمكن أن يكون منهاجاً أو برنامجاً للثقافة المنشودة التي ينبغي أن يقوم بتحصيلها كل من يُريد التميز والإبداع في مجال عمله القانوني ..
والذي يُتابع مستوى الكتابات القانونية المعاصرة والأداء القانوني الحالي في المحاكم، ومستوى التعامل والسلوك، إذا ما قُورن بالجيل الذهبي لرجال المحاماة والقضاة الأوائل يُدرك المدى الذي وصلنا إليه من تأخر وانحسار بل انحدار كامل على كافة المستويات، وإنَّا لنأملُ خيراً من هذا التغيير الذي حدث أخيراً في نقابة المحامين، حيث جاء بفقيه كبير وعالم جليل على رأس النقابة، ونسأل الله جلَّ وعلا أن يكون هذا فاتحة خير للنهوض بالمحاماة والمحامين، وزيادة الاهتمام بتنمية الجانب العلمي والثقافي لدى المحامين، وأن يكون ذلك على قدم المساواة تماماً مع الاهتمام بالجوانب المعاشية الأخرى من معارض، ومعاشات وعلاج ..إلخ ..

الفرق بين العلم والثقافة
ثمت فرقٌ كبير بين “العلم” و “الثقافة”، فالعلم أعم وأشمل من الثقافة، بحكم أن العلم له قواعد وأصول ومبادئ وضوابط ومُتطلبات وشروط، ومُصطلحات ورسوم .. إلخ؛ فالعلم أهم مكوناته مِنهاج دراسي علمي، وأستاذ، وطالب، وكتاب، وفترة زمنية مُناسبة للتحصيل، خلافاً للثقافة التي لا تحتاج إلى ذلك، فالثقافة مجرد تحصيل مجموعة من المعلومات والمعارف والقيم التي تحكم وتتحكم في السُّلوك الإنساني ..
فالعلم له قواعد ثابتة وأصول محددة واضحة، خلافاً للثقافة، فهي مُتغيرة تتغير وتتبدل من مجتمع إلى آخر، وتختلف من دولة إلى أخرى، وتتباين من أمة إلى أخرى، وهذا يُؤكد ما طرحته بخصوص عدم الوضوح في تحديد مفهوم “الثقافة” ..
وبهذه المناسبة تحضرني كلمة رائعة للإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه؛ يقول فيها: “أخي لن تنال العلم إلاً بستة سَأُنْبِيكَ عنها ببيان:
ذكاء، وحفظ، واجتهاد، وبُلغة، وإرشادُ أستاذ، وطُول زمان” .. هذا هو “العلم” وهذه أهم طرق تحصيله عند الإمام الشافعي رجمه الله ..
ويمكن تعريف العلم بأنه: “مجموعة الحقائق التي تَوَصَّل إليها العقل الإنسانيّ في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن، والمحرَّرة بالامتحانات المتكرر، فلا تتفاوت بتفاوت الأذواق، ولا تتغيَّر بتغير المصالح” [انظر: منهج الثقافة الإسلامية، الأستاذ محب الدين الخطيب، (ص10)] ..
فالعلم هو تراث إنساني عالمي مُشترك لا تختص به أمة دون غيرها، ولا تحتكره دولة من الدولة، ولا تستأثر به قوة من القوى، وإلا صار الآخرون عالةً عليها ..
والثقافة أخص من العلم، لاختلافها وتباينها بين الأمم والشعوب، حيث أن لكُلِّ أمة من الأمم ثقافتها وخصوصيتها الحضارية التي تنبع من هُويتها وتاريخها وحضارتها؛ فالثقافة تختلف باختلاف الأمم والحضارات والشعوب، كما أنها تختلف من مهنة إلى أخرى، فكُلِّ مهنة لها ثقافتها المطلوب تحصيلها والإحاطة بمفاتيحها ومبادئها ومُقدماتها، كالثقافة المطلوبة للمشتغلين بالقانون مُحامين وقُضاة ..

ولمَّا كانت الثقافة تعني: (مجموعة المعلومات والقيم والمعارف والعلوم والفنون والآداب التي تُعبِّر عن أمة أو حضارة أو مهنة)؛ فإنَّ الثقافة المطلوبة لرجال القانون تختلف عن ثقافة الأطباء والعلميين (كيمائيين أو فيزيائيين)، و تختلف كذلك عن ثقافة الصيادلة، و الزراعيين، والسياسيين، وجال الاقتصاد … إلخ، فلكُل فئة من الفئات مكوناتها الثقافية المرتبطة بمهنتها، ولكُلٍّ وِجْهةٌ هو مُوليها .. والله الموفق ..
للموضوع –صلة- في مقال آخر ..

زر الذهاب إلى الأعلى