التواضع بين الصدق والافتعال وادعاء جلبه للاحتقار

التواضع بين الصدق والافتعال وادعاء جلبه للاحتقار

نشر بجريدة الأخبار اليوم السبت 7/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

عرفنا عن الأستاذ عباس محمود قوله: «التواضع نفاق مرذول، إذا أردت أن تخفي به ما لا يخفي من حسناتك توسلاً لجلب الثناء ».

ولا غرابة في هذه المأثورة العقادية، فلن يصدق أحد أن يدعى أينشتين عدم العلم تواضعًا، أو يبدى السنهوري قلة علمه بالقانون تواضعًا، أو يزعم بيليه من باب التواضع أن حاله على قده في كرة القدم. هذا الإبداء يراه العقاد، ونراه معه، نفاق لن ولا يصدقه أحد، ولا تبدو له غاية سوى التفتيش عن المديح وجلب الثناء بأن يقال «يا الله، شاهدوا تواضع هذا العالم أو هذا اللاعب». فلا يخفي عن السامع ضلوع أينشتين في العلوم، والسنهوري في القانون، وبيليه في كرة القدم، وافتعال التواضع في ذلك غير مستحب، لأن الميزة في المتمعن معروفة لا تخفي على السامعين، ومن ثم لا تكون القالة المتواضعة إلا وسيلة لاستنطاق السامع أو السامعين بعبارات الحمد والثناء على هذا التواضع، وما هو في الحقيقة بتواضع، فالاصطناع فيه واضح. بيد أن الأستاذ أنيس منصور وقد أراد أن يدخل هذا المضمار في عموده اليومي « مواقف » بالأهرام، فإنه اعتاد إيراد بعض الحكم والأوابد والأمثال، فاختار بأهرام الجمعة 18/4/2008 مثلاً يدَّعى أن التواضع جالب للاحتقار، بقوله: «لا تتواضع.. وإلاَّ احتقرك الناس» !!

ظني أن هذه القالة مغلوطة، وغير صحيحة، ناهيك بأن تدرج في باب الحكم !!

هذا العبارة التي تسفه التواضع، تخلط بين الهوان والمذلة والخذلان وبين التواضع، ولا تستوعب أن التواضع من صفات وأخلاق القوة الحميدة.. التواضع هو تطامن القوى القادر الواثق وإلا ما كان تواضعًا.. أما هوان الهين، ومذلة الذليل، وخـذلان المتخـاذل، فلا يمكن أن يكون تواضعًا.. بل هو مرآة الواقع الهين الذليل المتخاذل.. وهذا الهوان المتضعضع، هو ما يمكن أن يحتقره الناس !.. الناس لا تحتقر القوى الذي يلين للضعيف، أو الغنى الذي يتواضع للفقير، أو الكبير الذي يتطامن للصغير.. أمثلة ذلك عديدة ترتد كل صورها إلى «التواضع» الذي تفيض شجرته عطاءً وارفًا في كل اتجاه.. في الرحمة والسماحة والتطامن والبذل والعطف والبر والمساواة والرأفة واللين والرفق والألفة والمودة والإنصاف وخفض الجناح.  والتواضع لأنه تطامن صادق من القوى، لا تقبل فيه مداهنة ولا نفاق ولا رياء.. الباحث عن الثناء بإظهار تواضع يخالف طبعه واقتناعه، لا يتواضع ولا يتطامن حقيقة.. إنما يظهره نفاقًا ورياءً طلبًا للسمعة وحسن القالة وبحثا عن ثناء قد يزيده في الواقع تكبرًا وعجبًا وتخايلاً بنفسه! ولكن التواضع الحقيقي هو من أعظم المناقب، ومن المحال أن يؤدى إلى الاحتقار، بل هو يؤدى إلى التقدير والإكبار، وإلى الحمد والثناء. لا تدخل العبارات باب الحكم والأوابد والأمثال، إلاّ إذا صادفت الواقع واعتصرت المعاني واستقطرت الحكمة! ظني أن الفضيلة الحاكمة لكل الشمائل، هي سجية «الصدق».. الصدق هو الشجرة الوارفة التي من فروعها وأعطافها يخرج الإخلاص، والأمانة، والوفاء، والتواضع.. ومن شجرة التواضع تخرج أفنان البر والعطف والرحمة والتطامن والبذل واللين والرفق وخفض الجناح !

أليس الله تعالى يقول لنبي البر والرحمة: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ؟!.. ويوصى جلت حكمته الأبناء بالوالدين: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا » ؟!

هل يمكن لخافض جناحه عن مقدرة ولين وتطامن أن يحتقره الناس؟!.. ظني أن تلك العبارة التي تحذر من التواضع مخافة احتقار الناس؛ قد خانها التوفيق والسداد وفارقت الحكمة !

ولعل أسوأ ما فيها أنها ربما دون أن تقصد تؤدى بمن يأخذون الأقوال على عواهنها إلى التكبر والعجب والخيلاء، والتعالي على الناس !!

زر الذهاب إلى الأعلى