التطور التاريخي لمهنة المحاماة.. (بحث)
لهذا الموضوع أهمية كبيرة منها:
١- المحاماة فيها نصرة للمظلوم، وردع للظالم، وهذا أسمى المقاصد الإسلامية فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية.
٢- تعلق المحاماة بالحقوق.
٣- جميع محاكم العالم تلزم المتهم بتوكيل محام عنه.
٤- مما زاد أهمية المحاماة ورفع مكانتها وصلتها بالقضاء.
لمحة تاريخية عن نشأة المحاماة
المحاماة ليست وليدة العصر الحديث كما يرى البعض، أو منذ الثورة الفرنسية كما يدعي البعض الآخر، وإنما ظهرت في المجتمع الإنساني منذ العصور الفرعونية، وظلت تتطور بتطور العصور وتغيرها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن.
أولًا: المحاماة في شرائع وادي الرافدين
تعد الحضارة السومرية من أعرق الحضارات في العالم أجمع، وقد أوضحت الوثائق التي اكتشفت معالم الحياة القانونية في تلك الحقبة الزمنية وتم العثور على العديد من ألواح الطين تحتوي على وثائق قانونية، كالعقود وقرارات المحاكم.
أما بالنسبة للبابليين فإن أهم ما يتطرق إليه من آثارهم القانونية هي؛ شريعة (حمورابي) التي يعد اكتشافها حدثًا تاريخيًا عالميًا، وقد كانت أقدم شريعة تم العثور عليها حتى سنة 1947، التي اكتشف فيها شرائع عراقية أقدم منها كشريعة (لبت عشتار) التي تسبق شريعة (حمورابي) وشريعة (بلال ما) وشريعة (أورينو).
إن هذه الشرائع لم تشر إلى وجود محامين للدفاع عن المتهمين، وإن أشارت إلى وجود كهنة تولوا توثيق العقود وكتابة الوصايا لقاء أجر، وإذا كان في وسعنا اعتبار هؤلاء من المساعدين على تحقيق العدالة برعايتهم لشئون غيرهم – إلا أنهم لم يتولوا أعمال المحامين جميعها، والسبب في ذلك يعود إلى خشية الناس من الدفاع عن غيرهم، واضطر المدعي إلى الترافع بنفسه في قضيته، لأن المادة الأولى من شريعة (حمورابي) كانت تقضي بإعدام كل من اتهم شخصًا بجريمة عقوبتها الإعدام، وعجز عن إثبات اتهامه.
ثانيًا : المحاماة لدى القدماء المصريين
كان لدى قدماء المصريين رجالٌ عرفوا بالعلم والذكاء، ويرجع إليهم الناس في المشورة ويستعينون بهم في خصوماتهم، مما يشبه نظام المحاماة اليوم، حتى أن هؤلاء الأفذاذ كانوا يجتمعون فيما يشبه الأندية العامة أو الخاصة، فيأتي إليهم الناس يستشيرونهم.
هذا وقد عرفت المحاماة زمن موسى (عليه السلام) حيث ورد في القرآن الكريم عنه قوله تعالى:
[قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)]
{ سورة القصص الآيات من 33 : 35}
كما وجد في عهده (عليه السلام) رجال يشتغلون أمام القضاء فيما يشبه عمل المحامين اليوم، وكانوا في عملهم هذا غير مأجورين ممن يعملون لمصلحته؛ لأنهم كانوا يأخذون عليه أجرًا من بيت المال، وكانوا يعتبرون كأنهم من رجال القضاء، حيث ينتخب منهم القضاة.
ثالثاً: المحاماة لدى الإغريق
كان نظام التقاضي عندهم يعتمد على واجب قيام طرفي الدعوى في الإثبات والدفاع، ولما أدرك الناس أن المحلفين يتأثرون ببلاغة الألفاظ خاصة بعد ما جد من تعقيد في الإجراءات القضائية، لجأوا إلى الاستعانة بخطيب يعرف ببلاغته، وبإلمامه بالقانون كي يؤيد الخصم، أو يعد له خطبة يلقيها أمام المحكمة، وكان هذا المسلك سببًا لرسوخ مهنة المحاماة، إذ جرى الناس على طلب هذه المعونة، كما جرت المحاكم على اللجوء إلى هؤلاء الخطباء الملمين في تفسير ما يبدو غموضه أو تعارضه في الأحكام من نصوص القانون.
رابعا : المحاماة عند الرومان
المحاماة في روما تعتمد إلى عهد وضع قانون الألواح الاثني عشر عام 450 ق.م الذي اعترف بمهنة المحاماة، وصار الشخص بمقتضاه يختار من يدافع عنه ممن اعجب بمواقف دفاعه أمام المحاكم في جلسات سابقة، أو من الأعلام الذين اشتهروا في المحاماة.
وحق اللجوء إلى معاونة المحامي في الدفاع حقًا معترف به لكل مواطن، إلا أن القانون الروماني كان يجيز في بادئ الأمر للمدافع مساعدة الخصم فقط دون تمثيله، كان ظهور الأطراف بأنفسهم للنطق بالعبارات المحددة واجبًا باستثناء حالات معينة أجيز فيها حضور المحامي، كحالات أسير الحرب أو المتغيب في خدمة الدولة.
خامسا : المحاماة لدى بعض الدول الغربية
1-المحاماة في فرنسا
في عهد لويس التاسع تم تنظيم مهنة المحاماة ولكنه فرض قيودًا شديدة على المحامين، موجبًا عليهم ألا يتقدموا للقضاء إلا بقضايا سليمة وأن يبتعدوا في دفاعهم عن الاعتداء على الخصم، وأن يلتزموا القصد في التعبير، وألا تتحرك شفاهم بمذمة أو نقيصة، وألا يتعاقدوا مع أصحاب القضية على أتعاب في أثناء نظر الدعوى.
وكان نابليون بونابرت من ألد خصوم المحامين – حيث قال معلقًا على مشروع المحاماة :
{ إنه مشروع سخيف، لا يترك لنا أي سلطان على المحامين، مع أنهم قوم ثوريون مدبروا جرائم وخيانات، ومادام سيفي بيميني فلن أضع إمضائي على مثل هذا القانون …. ولوددت لو استطيع قطع لسان كل محامٍ يستعمله في الطعن على الحكومة}.
وفي رأيي أن هذه شهادة من نابليون بونابرت بأن المحامي قادر على الوقوف في مواجهة الحكومة من أجل إظهار الحق ورد الظلم.
بيد أن المحاماة حميت حتى زالت دولة الظالم.
2-المحاماة في إنـجلترا
في القرن الثالث عشر الميلادي بدأ القانون العام الإنجليزي في التكوين، الأمر الذي أوجب ضرورة الاستعانة بخبير في القانون وإجراءاته، واضطروا هنا إلى الاستعانة بوكيل ذو خبرة قانونية، والذي اختص بأداء الإجراءات الشكلية والشفوية، وتقديم الدفاع في مسائل القانون لصالح عميله.
واليوم في انجلترا تتوزع مهنة المحاماة بين المحامي ووكيل الدعاوى، ومن المعروف أنه لا يجوز المثول أمام بعض الهيئات القضائية إلا لمن كان محاميا، حيث يترافع مثلًا أمام مجلس اللوردات والمحكمة العليا والمحكمة الجنائية المركزية بلندن.
سادسًا : المحاماة لدى العرب قبل الإسلام (المحاماة في العهد الجاهلي)
إن مهنة المحاماة لدى الجاهلية لم تعرف كمهنة مستقرة مستغلة لهذا الاسم إلا أن العرب كانوا يستعينون بمن يرونه أقدر وأبلغ في عرض وجهة نظر أي فريق في خصوماته، وكان من يستعان به يسمى (حجاجًا) أي قوي الحجة، وكان يوكل بصيغ متعارف عليها هي:
(وضعت لساني في فمك لتحج عني) أو (أنا عاجزٌ ولساني قصير، وفلان يحج عني).
وكان شعراء القبائل وخطابها ألسنة الناس ومحاميهم؛ لأن المحاماة القديمة اعتمدت على الخطابة في أداء مهمتها، وكان الشعراء أبلغ العرب وأبرعهم إلقاءً وخطابة.
وبما أن تنظيم مهنة المحاماة يتبع القضاء، ولما كان العرب قبل الإسلام لم يملكوا قضاء ملزمًا، فإن من العسير القول بوجود مهنة المحاماة عندهم، بالرغم من إقرارهم فكرة المعاونة في الخصومات على النحو الذي عرفه المجتمع القديم.
سابعًا : المحاماة في الإسلام
إن المتمعن في آيات القرآن الكريم يدرك أنها توحي بفكرة المحاماة، حيث ورد في سورة القصص على لسان موسى عليه السلام قوله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)]
{ سورة القصص الآيات من 33:35 }
إن هذا النص الكريم يفصح عن حاجة الفرد إلى من هو أفصح منه لسانًا وأقدر منه بيانًا للحجة في سبيل الوصول إلى الحق.
ولما جاء الإسلام تولى الرسول صلى الله عليه وسلم الفصل في الخصومات، والقيام بدور الافتاء استنادا إلى قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) ]
سورة النساء الآية 105
وقد ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه وكل عقيلًا للدفاع عنه واثبت حقه.
والناظر في كتب الفقه على مختلف المذاهب يجد أن الفقهاء عنونوا لباب من أبواب الفقه بـ (باب الوكالة) حيث ذكروا أركانها وشروطها وأنواعها.
ومن أنواعها الوكالة على الخصومة – نواة المحاماة – وما ذكره أهل العلم عن هذه المهنة من أحكام وآداب.
ثامنًا: المحاماة في مصر
استحدث نظام المحاماة في مصر بالأمر العالي لرئاسة مجلس النظار من يونيه 1880م , وصدرت أول لائحة للمحاماة في 18 ديسمبر 1888، وفيها أطلق لأول مرة على الدفاع صفة المحاماة، وعلى حاملي لوائه لقب المحامين.
وجاءت بعد ذلك لائحة عام 1893 المتأُثرة بالتشريعات الفرنسية، ثم القانون رقم 26 لسنة 1912 حيث شكلت للمحامين بناءً على هذا القانون أول نقابة لهم، ثم القانون رقم 17 لسنة 1983 وتعديلاته رقم 147 لسنة 2019.
تاسعًا: المواثيق الدولية والمحاماة
تبنت الأمم المتحدة معظم المبادئ التي وردت في أنظمة مهنة المحاماة لبعض الدول، واعتمدتها الجمعية العامة بقرار رقم 45/166 الصادر في ديسمبر 1990، حيث أكدت حق كل إنسان في طلب المساعدة من محام، وأن على الحكومات توفير الآليات التي تكفل تحقيق ذلك بصورة فاعلة، وعلى قدم المساواة، وعدم التمييز في ممارسة هذه المهنة لأي سبب، والمحافظة على شرف المهنة، ووضعت ضمانات لأداء المحامين لمهامهم ومنها:
١- أن يحافظ المحامي في جميع الأحوال على شرف مهنته وكرامتها باعتباره عنصرًا أساسيًا في مجال إقامة العدل.
٢- أن يسدي المحامي النصح والمشورة للموكلين فيما يتعلق بحقوقهم وواجباتهم القانونية ومساعدتهم تبني الطرق الملائمة، واتخاذ الإجراءات القانونية لحماية مصالحهم، ومساعدتهم أمام المحاكم بمختلف أنواعها.
٣- أن تكون جميع تصرفاته حرة ووفقا للقانون وللمعايير المعترف بها.
٤- يجب على المحامي حماية حقوق موكليه وإعلاء شأن العدالة والتمسك بحقوق وحريات المواطنين التي يعترف بها القانون الوطني والدولي.
٥- يجب على الحكومات أن تكفل سرية الاتصالات والمشاورات التي تتم بين المحامين وموكليهم.
ومن جماع ما تقدم يتضح؛ أن مسمى المحاماة لفظٌ حديث على مستوى العالم، أما عمل المحامي فقد كان قديمًا ووجد في كل حضارة بلفظٍ خاص به حتى عام 1790، حيث صدرت في فرنسا أول لائحة للمحاماة، ثم أسست أول نقابة للمحامين بها عام 1810م، حيث أطلق على هذه المهنة محاماة، ومن يزاولها محاميًا.