التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (18)

التركية العثمانية وأنهار الدماء ! (18)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 28/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

استغل نظام الخلافة التركي العثماني استغل ظروف الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ونفذ عملية الإبادة ضد الأرمن بدءًا من 24 أبريل 1915، فسكت العالم كما سكت على حملات إبادة الهنود الحمر، وعلى حملات إبادة وتهجير الفلسطينيين من وطنهم وأراضيهم وبيوتهم، وعلى خلاف العالم الصامت، جاءت ردود الفعل والمواقف العربية رائعة لا تزال محفورة في الوجدان الأرمني شعبًا وحكومةً ومهجرًا .

ومن ذكريات أيام مذابح الأرمن في تركيا أن استنكر الشريف على حيدر هذه المذابح، ونبه طلعت باشا أحد أهم أضلاع الشر ودعاة العنف ضد الأرمن في دولة الخلافة العلية، نبهه إلى أن العالم سيُلقى تبعة هذه الفظائع عليه شخصيًّا، وكان الغريب أن يرد عليه هذا الوزير العثماني بأن هؤلاء الأرمن لعنة حاقت بوطنهم زاعمًا أنهم كانوا يعيشون في أمان ورخاء مع بقية الشعب دون أن يعترض سبيلهم أحد، وأنهم الآن لا همٌّ لم سوى إثارة المتاعب، وجعل هذا الوزير يقول إنه من المتعذر كبح جماح الجنود، حين يُوفدون لتأديبهم، بل وأبدى خشيته ـ بلا خجل ولا حياء ـ من أنهم لا يستطيعون القضاء على جنسهم، لأنهم يتوالدون كالذباب !

والواقع أن حملات إبادة الأرمن سابقة على سنة 1915، فقد جاء السلطان عبد الحميد الثانى إلى الحكم (1842)، حاملاً شعار الاستبداد، والحملات المحمومة ضد الأقليات، وفي مقدمتهم الأرمن .

ومن مآسي عام 1915 الأشد إظلامًا في تاريخ الدولة التركية العثمانية العلية، أن أُجبر  في الأول من يونيو 1915 ـ أكثر من ثلاثة آلاف من الأرمن، معظمهم من النساء والأطفال، على ترك دورهم في « خربوط » وأُخرجوا بصحبة نحو « 70 » من معاوني الشرطة، على رأسهم أحد الأتراك من أصحاب النفوذ ويدعى « ك . بك »، ولدى وصول ركب المرحلين قسرًا إلى هانكوى، حصل « ك . بك » من كل شخص أربعمائة جنيه نظير تأمين سلامتهم لحين وصولهم إلى « ملاطيا »، مع وعدهم باصطحابهم بعد ذلك حتى « أورفان » لحمايتهم، ولكنه بدلاً من تلك الحماية التي وعدهم بها فر بما معه من النقود التي حصلها منهم، ولدى وصول القافلة المهجرة قسرًا إلى « توتليكوى » في اليوم الثالث، انقض عليهم البدو والأكراد ـ ليخطفوا النساء والفتيات الصغار، وبتحريض من ذات الحرس المعين لحمايتهم، الذين جعلوا يحرضون القبائل الجبلة البربرية على مهاجمتهم لسرقتهم وقتلهم واغتصاب نسائهم واختطافهم، ولم يقصر هؤلاء الجنود في اغتصاب النساء بأنفسهم علنًا !

وفي اليوم السابع، لم يكن قد تبقى سوى 185 نسمة !!

ويروى بعض شهود العيان، أنهم في اليوم الخامس عشر صعدوا بشق الأنفس المطلع الحاد للجبل، حيث قطع الجانحون الطريق عليهم وحاصروا مائة وخمسين منهم ممن تتراوح أعمارهم بين15 إلى 90 سنة، وساقوهم إلى مكان قصى، حيث قاموا بقتلهم جميعًا ثم عادوا لسرقة الباقين من المرحلين واغتصاب النسوة والفتيات .

وفي رواية « جان ماري كارزرو » ( أريك العدد 63 ديسمبر 2015 ) أنه في ذات اليوم قدمت قافلة أخرى من المرحلين تضم ثلاثمائة رجل قادمة من سيـﭭاز وآجن وتوجاد، انضمت إلى قافلة « خربوط » ليكونوا معًا قافلة أكبر وصل عددها إلى 18 ألف نسمة، ورحلوا في اليوم السابع عشر تحت الحماية المزعومة لبك آخر كردى، استدعى رجال قبيلته وقاموا بسلب ونهب القافلة .

وفي اليوم العشرين، وصل الباقون من القافلة إلى قرية « جونليك »، حيث خرج أهالي القرية عن بكرة أبيهم، ليتتبعوا القافلة لمسافة طويلة، قاموا خلالها بسلب ونهب وتعذيب المرحلين، واختطاف من تيسر لهم خطفهم من النساء والفتيات .

ووصلت هذه القافلة التي تتآكل كل يوم، وصلت في اليوم الأربعين، إلى مشارف نهر مراد، أحد روافد نهر الفرات، ليجدوا في انتظارهم أكثر من مائتي جثة حملتها المياه على سطح النهر، وعليها آثار الدماء وضربات السيوف، وليعثروا على ضفتي النهر على ملابس داخلية وسراويل ملطخة بالدماء التي سفكت .

ولم تكن البقية التي بقيت لليوم الخمسين ـ أحسن حظًا ممن سبقوهم إلى الموت، فقد جعلت قبائل الأكراد الجبلية تجردهم من كل ما تبقى لديهم، وتسييرهم عراة تحت لهيب الشمس المحرقة، ولمدة خمسة أيام لم يحصل هؤلاء التعساء على أي ماء أو زاد، فسقطوا تباعًا صرعى للجوع والعطش، حتى إذا ما وصلت « بواقى » البواقي من هذه القافلة التعيسة إلى نبع ماء، أغلق عليهم عساكر الجندرمة الطريق، وباعوهم كوب المياه بسعر تراوح بين الجنيه والثلاثة جنيهات في مشهد يوجع القلب .

وعندما وصل هذا الركب إلى حلب، في اليوم السبعين، لم يكن قد تبقى منهم سوى خمسة وثلاثين سيدة وطفل، ومائة وخمسين سيدة هن من بقين من الراحلين من خربوط من أصل تلك القافلة البالغة ثمانية عشر ألف نسمة .

في تلك الأيام السوداء، بدا واضحًا لكل مراقب منصف أن الجاري في تركيا، إنما هو إبادة حقيقية للشعب الأرمني الذي وضعه حظه العاثر في بقعة من العالم خاضعة لهذه النظرة الدموية التي تستطيع أن تقول بلا مغالاة، إن كل عدد السكان الأرمن قد خضع في إقليم بعد إقليم لإجراءات مشددة بدأت بقيود الانتقال، لتتحول إلى « النقل » الذي اقترن بهذه المآسي التي تصب جميعها في إبادة جماعية تدار بقلوب ميتة وضمائر أكثر مواتًا، يطل فيها دائما وجه طلعت باشا وزير الداخلية المسئول عن كل تلك العمليات، ليدل على أن تلك العمليات كانت نتيجة مداولات طويلة، دلت على أن أرمينيا والأرمن مستهدفون بتخطيط متعمد مرسوم فصوله لتصفية هذا الشعب في عمليات إبادة جماعية تحجرت فيها القلوب وماتت الضمائر !!

زر الذهاب إلى الأعلى