التركية العثمانية وأنهار الدماء !(15)

التركية العثمانية وأنهار الدماء !(15)
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 7/12/2020

خُلع السلطان عبد الحميد وعُزل من الحكم، غير مأسوف عليه، ليبايع ويتوج السلطان السادس والثلاثون « محمد رشاد خان الخامس » في 27 أبريل 1909 م / 1327 هـ، بعد فتنة ارتجاعية أحدثها السلطان عبد الحميد بما طبع عليه من استبداد، فسولت له نفسه إحداث هذه الفتنة لتقويض صروح الإدارة الدستورية .

ومن بعد السلطان « محمد رشاد خان الخامس » تبوأ الخلافة في سنة 1337 هـ / 1918 م السلطان السابع والثلاثون : « محمد السادس »، ومن بعده تولي الخلافة سنة 1339 هـ / 1920 م ـ السلطان الثامن والثلاثون : « عبد المجيد الثاني »، ليتم في سنة 1341 هـ / 1922 م فصل السلطنة عن الخلافة، إلى  أن أعلن مصطفي كمال أتاتورك إلغاء الخلافة في 26 رجب 1343 هـ / 3 مارس 1924 .

وكان هذا هو حكم التاريخ، قبل أن يكون قرارًا لأتاتورك؟

وقبل أن أتحدث عن مذابح الأرمن، نعم مذابح لا مذبحة، لأنها تعددت في صور دامية منذ أبريل 1915 حتي مطلع سنة 1918، قبل انقضاء الخلافة التركية العثمانية في عام 1924، وساهم في تدبيرها وارتكابها مع دولة الخلافة العلية، جمعية الاتحاد والترقي، وبلغ من بشاعتها أن حملت عدة أسماء ـ منها « المحرقة الأرمنية » و« الجريمة الكبرى »، فضلاً عن « المذابح الأرمنية »، وجمعت كل هذه المسميات بعض التعبير عن تلك الإبادة الجماعية للأرمن، وكان أخفها الترحيل القسري الذي سيق فيه الأرمن إلى  الموت الحتمي في الطريق الذي دُفعوا قسرًا إلى ه، بعد الذبح والاغتصاب وكل صور التنكيل، أما المجازر فكانت الأكثر تعددًا وفظاعة، وقدر عدد الضحايا الأرمن بين مليون، ومليون ونصف نسمة، وهذه المجازر جديرة بأن أختم بها هذا الحديث .

ولكنني أتوقف هنا وقفة سريعة، بمناسبة الإشارة إلى  سقوط دولة الخلافة العلية علي يد مصطفي كمال أتاتورك في مارس 1924 .

وظني أن أسباب إنهيار دولة الخلافة العلية التركية العثمانية، والتي يريد أردوغان أن يحييها من قبورها، هذه الأسباب يحتاج تقصيها إلى  كتاب خاص، يفحص ويدقق ويستقصي الجذور .

ويمكن رد هذا الإنهيار وغروب دولة الخلافة العلية، إلى  أسباب رئيسية أولها الدموية الأصيلة المتجذرة في الطبع والنسيج، تلك الدموية التي تعددت صورها في قتل الإخوة والأبناء في إسراف لا مثيل له في الولوغ في دماء الأصول والفروع والأخوة، وكان لولاية العهد، وتعددها أحيانًا كما حدث في دولتي الخلافة الأموية والعباسية، نصيب في دفع هذا الطبع الأصيل إلى  القتل والإسراف في الدماء سباقًا علي السلطة، أو تكريسًا وحماية لها !!

حتي في الأوقات القليلة التي تراجعت فيها عادة قتل الإخوة والأبناء، وأحيانًا الآباء، فإنه قد استبدلت إراقة الدماء ـ بالإلقاء في السجون، أو تحديد الإقامة في القصور تحديدًا أشبه بالسجن، حتي صارت هذه القصور « أقفاصًا » كثيرًا ما أدت إلى  إصابة السجين بالعته وبالعلل النفسية والصحية , ومن هذه المثالب وأسباب الانهيار الحكم المطلق والاستبداد اللذان أخذا يضربان في جسد الدولة وبنيتها وردود أفعال بنيها ما بين الحقد أو الثورة أو الانتقام , ومنها سيادة النظام الإقطاعي ومثالبه وأضراره معروفة , والأخذ إلى  جواره بنظام الالتزام في الأقإلى م والمناطق التي لا تخضع لنظام الإقطاع , وبمقتضي الالتزام تسلم مساحات من أراضي الدولة إلى  ملتزمين يتولي كل منهم إدارتها والإشراف عليها , ويلتزم بتسليم الدولة مقدارًا من الأموال في كل عام متفقًا عليه سلفًا , مما استلزم منح هؤلاء الملتزمين سلطة جباية الخراج بما ترتب علي ذلك من استنزاف وظلم الأهإلى  , ومن المآخذ التي حُسِبتْ علي الدولة العلية ـ إلى  جوار الحكم المطلق والاستبداد ـ التدخل باسم الأديان في حقوق الأفراد , مما زرع وانتشار التعصب الديني , وشيوع الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الرشوة والفساد , وشيوع طغيان السلاطين , والمذابح الوحشية التي وقعت بين الطوائف باسم الدين , وضعف السلاطين المتأخرين لأسباب متباينة منها صغر السن , وافتقاد الإمكانيات والقدرات والمواهب , ومنها كما رأينا الخلل العقلي والاضطرابات العصبية , فضلاً عن تفشي القروض نتيجة الإسراف والتبذير وانحلال القصور , وإغفال مصالح الأمة , وتعمد إضعاف العرب لحساب الأتراك .

ومما يكثر فيه الحديث، المنطقة الحرجة العائمة، التي تصادف المنقب عن طبيعة العلاقة بين جمعية الاتحاد والترقي، ومصطفي كمال أتاتورك والكمإلى ون، وهي علاقة تصادف الباحث فيها آراء وبيانات متباينة، بين الموإلى  والرافض , والمادح والقادح , حتي تري غاية المدح وغاية الذم أيضًا في جمعية الاتحاد والترقي , فتري من يمتدحها وتري من يصمها بالدكتاتورية , أو من يتهمها بممالأة الصهيونية , وتري مثل ذلك في شـأن مصطفي كمال أتاتورك وجماعة الكمإلى ين أو تركيا الفتاة التي أنشأها,  فهو الغازي البطل أحيانًا,  وهو المهادن لأوروبا الصديق للصهيونية أحيانًا,  ومن يقول إن الكمإلى ين ذوو جذور يهودية وعلي صلة بالماسونية، مثلما جاء في كتاب شيخ الإسلام : « الأسرار الخفية »,  وهم في نظرٍ آخر إصلاحيون,  وهم في نظر ثالث يبذلون وأتاتورك تضحيات لاسترضاء الغرب,  ومناهضة الإسلام بعلمانية الدولة,  وتحديد عدد المساجد واقتباس قوانين غربية . وظل ذلك كله جاريًّا تحت جناح دولة الخلافة التركية العثمانية، بطلة كل هذه الأنهار التي سالت من الدماء، ولم تتوقف هذه الممارسات الدامية، مع الأرمن وغير الأرمن، حتي أزيلت دولة الخلافة إلى  غير رجعة في مارس سنة 1924 . وقد كان لهذا كله ذيول متعددة لا نزال نلمح آثارها في تركيا الحديثة القائمة الآن,  في فلسفتها,  وفي سياستها,  وفي توجهاتها، وفيما يحرك به أردوغان سياستها ومواقفها التي لا تكف عن التوحش علي الدول رغبة في طيها تحت جناحيها، فنراها بممارستها البشعة في كل من العراق ومع الأكراد، وفي سوريا، وإلى من وليبيا التي تمددت أطماعها إلى ها رغبة في انتهاب ما يستخرج فيها من البترول، وهي هي ذات الأطماع التي نراها تدفعها إلى  النطاق الإقليمي للبحر لكل من قبرص وإلى ونان، طمعًا كعادتها طوال تاريخها، في السطو علي حقول الغاز في المتوسط وعلي خيرات الغير، واستنزاف موارده كما فعلت طوال احتلالها لمصر، حتي ازاحهم الله عنا !!

 

زر الذهاب إلى الأعلى