التذرع الكاذب بالأعمال الكبرى !

بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة الوطن الجمعة ٧ / ١ / ٢٠٢٢

بداهة لا اعتراض على الاشتغال بالأعمال الكبرى ، ولا الأغراض الضخمة والإصلاحات الكلية ، فذلك هدف كبير وغاية محمودة إذا ما صدرت بصدق وبلا مخادعة أو ادعاء من القادرين عليها , المنصرفين بصدق وعزم وإخلاص إلى القيام بمهامها وموجباتها ولوازمها وعناصرها ومكوناتها وأركانها ، المستعدين للسعى إلى تحقيقها فى صدق وبذل وعطاء وجد واجتهاد ومضاء !

ولكن ماذا إذا خرج الاشتغال بالأغراض الضخمة والأعمال الكبرى والإصلاحات الكلية عن هذه الأغراض والغايات والعزوم والمقاصد والقدرات ، إنه يكون محض ظاهرة مرضية استعراضية , للخداع والادعاء ، وارتداء أثواب باطنها فقدان الصدق والرجاء , وضمور الإرادة , والهرب من ملاقاة الواقع ومعاناته !

أليس غريبا أن يخفق العجزة وأشباه العجزة ، عن أداء المهام الصغيرة والقيام بأعبائها الجزئية أو البسيطة ، ثم تراهم يتمنطقون ويتقدمون الصفوف ويتسابقون إلى صفحات الإعلام المرئى والمسموع والمقروء , ليبشروا الناس بأنهم قد نذروا أنفسهم وحيواتهم وجهودهم مجانًا لأغراض ضخمة وإصلاحات كلية كبرى لا يكادون يفقهون فيها شيئا . وهذه الميول المرضية المظهرية تدفع إلى الذهن أسباب إعراض أمثال هؤلاء عن العمل الممكن المقدور عليه المتناسب مع قدراتهم المحدودة ، والإقبال ـ شكلا لا مخبرًا ـ على التماس الضخم الشامل الكلى !! من المحال أن يجرى ذلك إلاّ إذا كان أصحاب هذا التظاهر قد فقدوا الرجاء والثقة فى استطاعتهم أن ينجزوا شيئا ذا قيمة ، فصاروا يتظاهرون ويستعرضون اللياذ بالأمانى الكبرى التى لا يستطيع النهوض بها إلاّ ذوو العزائم الماضية والقدرات المتميزة والإمكانيات الحقيقية المشهود لها وبها .

من المؤسف أن هذه الآفة تفشت وانتشرت ، وصرنا نرى العاجزين عن القيام بمسئولياتهم ومهام عملهم الشخصية ، ينبرون لتقدم الصفوف تحت شعار أن كلاًّ منهم « طبيب الملايين » .. بيده مبضع سحرى يستطيع أن يزيل به كل أمراض وأسقام وآلام البشر , وهو يتوهم هذا أو يدعيه ، ليبرر به تناقض تراجع قيامه بواجباته الأصلية نحو عمله المأجور عليه , ونحو أسرته المسئول عن إعالتها بكل ما تستلزمه هذه الرعاية .

فترى من يهمل أسرته ، ويهمل عمله ، ويتخلى عن واجباته الشخصية ، يتقدم للخدمة العامة المجانية ، ترى ذلك فى الأندية والنقابات ، فتقف مشدوهًا , كيف لهذا المتبرع القيام والنهوض بأعمال النادى أو النقابة بينما عمله بمهنته معيب قاصر العيب ومشحوب بالإهمال أو الجهل ، أو كلاهما معًا ــ رأينا من ينبرى لعمل نقابى لا يمارس العمل الذى قامت هذه النقابة أو تلك من أجله ومن أجل رعايته والعاملين فيه . كيف يتأتى أن يرعى الطب من لا يعمل به , أو يراعى المحاماة من لا وجود له فى المحاماة !!

ومن المؤسف أيضا أن تقترن هذه الآفة المرضية التى تعكس أمراض المظهرية والفراغ والتفاهة والادعاء الكاذب ، بظاهرة مرضية أخرى هى التعلق ـ بلا فهم ـ ! بالماضى والماضين ، والقعود عن دراسة واقع الحاضر واستشراف احتمالات المستقبل . نعم للماضى قيمة تتمثل فى دراسته والإحاطة بعبره واتخاذه قوة ، ولكن لتقدير خطوات الحاضر نحو مستقبل أكثر إشراقا .

ومن التصورات التى شاعت من قديم ، أن أمس كان أفضل حالاً من اليوم ، وأنه طبقًا لهذه الوتيرة سيكون غدًا أسوأ من اليوم ، وأنه كلما مضى بنا الزمن ابتعدنا عن حظوظنا من الهداية والاستنارة والاستقامة ، ببعدنا عن الإشراقة العظيمة الـتى أتى بها القرآن المجيد ، وأنه لذلك فإن كل جيل يأتى يكون أقل خيرًا من الجيل السابق عليه ، وأنه مع دوران الزمن وتعاقب الأجيال وتـراكم التدهور ، يفقد الحاضر ما كان طيبًا فى الماضى لـدى السلف الصالح .

وهذا التصور المتشائم ليس رأى الإسلام ذاته ، وإنما أتانا ذلك من تقديسنا لكل ما هو ماضٍ ، ومن اعتزازنا وفخرنا بالآباء والأسلاف .. وحين يطول العهد بهذا الإعزاز ويمازجه الشعور بهزيمة الخير والمحبة والحق ، واليأس من إمكان مقاومة الشر والأشرار ، يزداد النزوع بالقلوب وبالخيال إلى الماضى لتلمس العزاء فيه عما بالحاضر من بعد عن الخير والصلاح والفضيلة والحق .. ويقبض الناس على هذا الماضى بعنادٍ وتعصب وإصرار، حين لا ينجح الحاضر فى اكتساب ثقتهم ، أو حين ينفرهم هذا الحاضر ويزعجهم .

على أن إكبار عصر النبوة وأمجاد الإسلام وأئمته وأعلامه ، وهو طبيعى ومعقول بل ومطلوب ، لا يقتضى هذه النظرة المتشائمة الموغلة فى التشاؤم واليأس من الحاضر ، فالتطور والترقى من حال إلى حال سُنة من سنن الحياة ، وليس فى هذا التطور جحود ولا نكران للماضـى وأمجاده ، والإسلام نفسه يرى فى المسلم ذريته ، ويرقب فى حاضره مستقبله ومستقبلهم فى ظل ممدود من الرجاء والثقة فى الله .

ونحن بداهة لا نستطيع تجاهل الحكم على عصرنا وعالمنا ما دمنا نعيش فيهما ، على أن الخطأ والصواب فى التقدير مردهما بداهة إلى الصدق والاعتدال ، ومن الأسف أن عالمنا لم يعد يحب الصدق ويحس بقيمته ، وراج الاستغناء عنه وشاع إمكان العيش بدونه , بل اعتبر تزييفه شطارة وألمعية وبراعة , فذلك يحقق للمخاتل المخادع , أكثر كثيرًا مما يحققه أو يجنيه الصادقون ، ساعد على ذلك أن بالعالم قوى هائلة تعمل ضد الصدق عن قصد وعمد ، وتحاربه حربا مستورة بمهارة وكفاية ، وتزهد فيه الناس بكل حيلة ، وصار هناك من يسخرون من الصدق ، ويجرَّئون الناس على ازدرائه وامتهانه ، لأن هذه القوى لا تريد حدودًا تصادر على أغراضها أو أطماعها ، ذلك أن شيوع التعلق بالصدق يؤدى إلى الإخلاص للحق ، وهذا الإخلاص للحق يؤدى بدوره إلى الشجاعة واحترام النفس ، وهذه المثاليات تغلق مسالك الفهلوة والاحتيال , لا يحب سالكوها أن تغلق أو أن تضيق أبوابها ومنافذها عليهم !

ولا تنى هذه القوى الهائلة التى يقلقها الصدق ، تبحث عن بدائل يستعيض بها الناس عن الصدق والتعلق به ، وهذه الصناعة للبدائل لا تفتر ، لأن البدائل قصيرة العمر سريعة التحلل ، ويبدو أن الآدمى الذى تخلو حياته ـ مددًا طويلة ـ من الصدق ، يصيبه نوعٌ من ضمور الوجدان والعقل والشخصية ، وخواء يشبه الكساح النفسى !

الإنسان يفقد التعلق بالصدق حين يكف عن اعتباره قيمة مطلقة تعلو على نفسه وعلى مصالحه ومنافعه ، فحين نرهن الصدق بالنفع أو المصلحة ، نكون قد أفقدناه قيمته وألغيناه . ونحن نفقد الصدق حين ننسى أنه لا يعيش إلاّ إذا كان سقفا واحـدًا لمشيئة البشر ، تقف عنده أهواؤهم وأغراضهم وأطماعهم ، بحسبان أنه أداة القياس النهائية التى تقاس بها وترتد إليها كل القيم !

زر الذهاب إلى الأعلى