التأمل ليس صناعة عموم البشر
التأمل ليس صناعة عموم البشر
نشر بمجلة الدبلوماسي عدد ديسمبر 2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الإمعان في التفكير ـ هو التأمل وإطالة وتقليب الفكر.. ونحن لا نفعل ذلك في أغلب أوقات يقظتنا على خلاف ما قد يتهيأ لنا.. لأن أغراضنا اليومية المألوفة لا تحوجنا إلى هذا الإمعان في التفكير.. ومن ثم نقنع بما هو قريب لدينا بهيئته ووجوده وعناصره على سطح الذاكرة.. ولكثرة هذا النوع السهل من التفكير والتذاكر، اعتدناه وألفناه وعشنا عليه، فلا نعود نعرف ونرتاح إلى سواه.. وبذلك أمسى التأمل عسيراً على معظمنا إن لم يصر مستحيلاً لفقده بطول الترك وعدم الممارسة.
وهذا يكاد يكون القاعدة العامة لدى الآدميين العاديين ذكوراً وإناثاً.. ويكاد يتشابه مع هؤلاء الكثير ممن يستدعى عملهم التأمل وإمعان التفكير، لأنهم بدورهم يستغرقهم الاعتياد فيحصرون تأملهم أو إمعانهم التفكير في حدود عملهم، ثم يهجرونه أو لا يمارسونه في حياتهم المعتادة خارج نطاق أعمالهم..
فإمعان التفكير ـ على عكس ما قد نتصور ـ ليس صفة سائدة في عموم البشر والجماعات.. وهذا ما يجعل الجماعات المتطورة أو المتقدمة ـ كثيرة الحركة يغلب فيها الاشتياق إلى التغيير والضيق بالإبطاء والأناة والقيود والأنظمة التي تفرضها السلطات أو التقاليد أو قواعد الأخلاق، دون أن يكون ذلك الضيق ثمرة إطالة نظر أو أناة، أو أن يكون مصحوباً ببديل مقترح إحلاله محل ما هو موجود مما صار عسيراً تغييره الآن .
وأغلب ما واجهه المفكرون الذين يطيلون النظر في أمثال هذه الضوابط ـ نقداً وتخطئةً ـ قد اقتصر على إبراز ذلك الجانب السلبي.. ويزيد هذا النقد في مرارة الشكوى واتساع انتشارها وتحويل صبر الحكام عليها إلى تقصير أو إهمال، ويساهم في ذلك أن معظم البشر يؤثرون السطحية ويلوكونها في كافة أعمالهم، ويؤثرون معها الكسل والاقتصاد في المجهود، مما فاقم السلبيات وأدى إلى القعود عن علاجها !
وهذا الانكفاء ـ إن جاز التعبير ـ يكون أكثر وضوحاً كلما اتسعت الجماعة في العدد والأنشطة وتباين الأجناس والأخلاق، فتقل لذلك فرص تتبع ومراقبة سلوكيات الأفراد، ويتناسى المجتمع ذلك خلال الكثرة والازدحام اللذين غمرا كل شيء في عالمنا اليوم، ويهمل تبعاً لذلك الواجبات الاجتماعية المتبادلة التي تكفل النظام والراحة للجميع في المجتمع الواسع.
والملحوظ أن أهل المجتمعات الصغيرة أشد التفاتاً إلى الالتزامات التي تفرضها على الأفراد ـ الأصول والتقاليد والعادات واللياقات.
والغالب أن الإنسان العادي لا يتأمل ابتداء وتلقائياً تصرفات نفسه وغيره، وقد يراجعها ـ فقط ـ إذا خالفت توقعاته وظنونه أملاً في إزالة المخالفة أو تفادى تكرارها، وهذه المراجعة فيها مع ذلك ـ من ضغط العاطفة أكثر مما فيها من آثار الفهم والتعقل، وهو ما يشوش على التأمل ويحجب قيمته لدى من يعيد النظر في تصرفه أو تصرف غيره، مما أدى إلى بقاء الإنسان العادي إلى اليوم على حاله من التعلق بالسطحية وظواهر الأمور.
وكثيرو التأمل نادرون في كل عصر، وهم يتجاوزون المستوى العادي أو الخاص المعهود في عصرهم، ولكن لا يتجاوزون ذلك من كل وجه ولا في غالبية الوجوه والصفات والعادات، وإلاَّ استحال عليهم معايشة معاصريهم، وصعب أو نَدر عليهم التأثير في معظم بنى عصرهم أو في ذراريهم أو حتى في ذرارى من تأثروا بهم، ولصار وجودهم مع ندرته شذوذاً محصناً عديم الجدوى!
وتأمل الفرد من هذه الندرة، يبدو في أوائل أمره نشاطاً خاصاً تنفرد به هذه القلة النادرة، سرعان ما يتجه بكيانه إلى محيطهم وإلى السعي لإفادته بما حصل ويحصل المتأملون عليه من نواتج تأملهم.
وحين يتبين المتأمل أنه مسوق بدافع داخلي لا يمكنه مقاومته، يندفع إلى مسايرته بكيانه وجزئياته، دون أن يبالي بالجهد والعوائق، ولا بالتضحية والمخاطر، ويصبح المتأمل كأنه نزعة عرقية هدفها الأساسي قيادة الجماعة إلى تعديل أو تغيير مسارها أو أكثر مساراتها الاجتماعية.. وهذه نهاية إيمانية عميقة طاغية ولا تسمح بالرجوع أو الانسحاب، إذ عندها توقفت فكرة المتأمل عن موالاة الأسئلة على نفسه، وعن محاولة العثور على إجابات عليها أو إجابة على كل منها، وزالت مع هذا التوقف فرص مقابلته للاسترابة والشك فيما معه.
* * *
بقاء فرص التأمل وطرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، لا يوجد عادة إلاَّ لدى العلماء والباحثين في العلوم الوضعية.. الذين يخلون من التعصب وتسمح عقولهم ونفوسهم بالتسليم باحتمال الخطأ والسهو والقصور ـ في مقررات تلك العلوم التي ينبغي ألاَّ تنقطع فيها المراجعة والبحث أملاً في المزيد من الدقة والصحة . ويقل أن توجد هذه الفرص لدى أصحاب العلوم الأخرى والفنون، ويستحيل وجودها عند أصحاب المذاهب والعقائد . فهؤلاء يتحولون عن الاسترسال في البحث عن الدقة والصحة ـ إلى الاسترسال في اكتشاف وجوه الكمال والجمال فيما صار معهم، وإلى صرف الجهود في الدفاع والتأييد والمعونة والنصرة كي يبقى ما معهم مرفوع الراية.. وهذا أقوى في اجتذاب الآدمي في كل عصر، وأقرب إلى راحته وتمسكه به بل غرور الاعتماد عليه، وأشهي إلى الأذواق والميول ـ أقوى وأقرب وأشهي من استمرار إطالة وتقليب الفكر ومواصلة طرح الأسئلة على العقل ومن الملاحظة والإصرار على محاولة البحث واقتناص الإجابات ومداومة إعادة فحصها ومراجعتها وتقويمها .
إن الاعتياد على التأمل وتقليب الفكر قبل اتخاذ القرار أبعد في عقل الآدمي من وعود الجنة.. لم تبلغه بعد ـ أعنى هذا الاعتياد ـ غالبية الأفراد حتى في الجماعات المتقدمة، ويبدو أن ذلك من أسباب قلق هذه الجماعات وتكرار أزمانها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لم يُفلح في منعها أو في الحد منها ـ التقدم الهائل في العلوم والكشوف والاختراعات والتكنولوجيا.. وذلك لتفشى المضاربة والمضاربين والمغامرة والمغامرين، في دوائر المال والأعمال ودوائر السياسة والحكم، وانعكاس ذلك في سلوك وآمال ومطامع العامة والخاصة.. وهذه كلها خالية من الاتزان المصاحب دائما لاعتياد التأمل وإطالة النظر وتقليب الفكر.. بل هي مليئة أيضا بالتسرع والتوثب والجرأة وانتهاز الفرص إن سنحت ومحاولة خلقها إن لم تسنح !
والناس إذ تعيش اليوم حياتها المألوفة في هذا الجو المشحون بالتوتر والانتظار لفرصٍ أغلبها غير راجح بل على درجات متفاوتة من الاحتمال والظنون والحظوظ والحيلة والدهاء.. فإن الناس في هذه الحال لابد أن يعتادوا دوام هذا القلق الداخلي الذي يسوّد الحياة العامة والخاصة في نظرهم.. حاملاً معه بذور الأزمات والاضطرابات والفتن والحروب الداخلية والخارجية.. سيما أن نظمهم الاقتصادية والسياسية تجعل معظم أموالهم وحقوقهم ودائع في يد الحكام والإدارات والمصارف وبيوت المال التي يؤذيها أذًى بيناً ـ المغامرة والمجازفة من المغامرين والمجازفين ومن مقلديهم وهم الكثرة الكاثرة التي تجتذبها وسائل الإعلان المعاصرة مرئية ومسموعة ومقروءة !
هذه الأخطار تهدد فيما تهدده من معالم الحضارة الحديثة ـ تهدد ثروة البلاد العلمية المتقدمة.. فهذه ينهض بها أفذاذ وواعدون تجذبهم المعاهد العلمية ومعاملها ومعامل الشركات الصناعية الكبرى المخصصة للبحث العلمي، وذلك بالأجور العلمية والتجهيزات والإمكانات الغالية والمكانة والتشجيع السخي للإنتاج.. وهذه تقدم وتقوّم مصادر الثروة الاقتصادية والمالية، والتي هي حاصل ونتاج وأساس وركيزة التقدم العلمي الحالي.. وهذه الثروة تنهار ـ برغم التقدم العلمي ـ إذا انهارت النظم السياسية والاجتماعية سواء بالأزمات أو الاضطرابات أو الفتن والحروب!
* * *
لقد انتقل زمام تقدم العلم الوضعي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من يد الأفراد بقدراتهم المادية المحدودة ـ انتقل إلى أيدى المنظمات الغنية القادرة على الإنفاق والبذل لتقدم العلم كيما يزودها من خلال الأنشطة العلمية بما قد يحقق أغراضها هي ـ دون أن يفارق مقره العادي في الجامعة أو المعهد أو المعمل.
وبديهي أن الاعتياد على التأمل وإطالة تقليب الفكر ـ هو زيادة في سلامة العقل وحريته، ويخالف من كل وجه تسلط الفكرة المعينة لدى ذوي العاهات العقلية أو النفسية أحيانا، وفيه ـ أعنى هذا التسلط ـ يتوقف نشاط الفكر عند فكرة معينة لا تفارقه، ويبقى أسيرًا لها يومه وغده.. تكبل كافة قواه العقلية أو تقيد حركات وأنشطة استعداداته النفسية التي توجد في الإنسان السليم العادي، كما يخالف ما يشاهد لدى أهل التمذهب والتعصب من استحالة تغيير أو تعديل مبادئ أو مصدقات معينة يسلمون بها ويستسلمون لها بلا قيد أو شرط.. لأنها عندهم ” أبدية ” الصحة يحكمونها في كل مسألة تعرض لهم أو تعرض عليهم أو تعترض طريقهم، ثم هو يخالف بلا شك ـ أي هذا التسلط ـ يخالف من لا يبالون بالصحة والبطلان وهم حتى الآن كثرة الناس، لأنهم لا يهمهم إلاّ الانحياز لما هو سائد أو غالب؛ والاحتماء في ظلّه والسير في طريقه.. فهو يقيهم المسئولية ويؤمنهم من الخوف ويضمن لهم قدرًا من السلامة في حاضرهم .
وهذه الفئات من الآدميين مرضى وغير مرضى ـ لا تكاد تكتتب في تقدم النوع الإنساني بشيء ذي بال فيما عدا التوالد ـ فتوالدهم يتيح فرص ظهور ذرارى أصح وأفضل وأكثر نفعًا .
ثم إن التأمل ليس ظاهرة بدائية في الآدمي كالأكل والشرب واليقظة والنوم والعمل والراحة، بل هو ظاهرة رقى وتقدم في الاستعدادات، وسر لا يتأتى بأية صورة مجدية إلاّ في جماعات تتصل وتنفصل وتتفق وتختلف، وتتبادل آليًا وعمدًا الأفكار والتصورات .
فالذين يعتزلون في الشطر الأكبر من حياتهم وينفردون في عزلة تقطعهم عن أي اتصال أو تواصل أو تبادل وتلاق أو اختلاف.. لا يجدون حافزًا يحفزهم إلى التأمل ؛ لأنهم لا تثور في رءوسهم أسئلة تستدعى إطالة النظر وإمعان الفكر، ولا يحاول تفكيرهم العثور على ردود تشغلهم بفحصها وتجربتها وتدفعهم إلى عرضها على غيرهم لإقناعهم بها أو لتلقى مساعدتهم على الإجابة عليها أو لمحاولة إبداء وبيان ما لديهم مما هو ناقص أو خاطئ أو زائف لا أساس له .
فالعزلة التامة عن الناس، ليست ملاذ التأمل، بل هي ملجأ التشرنق والتعصب والجمود، ولذلك فإن الاعتزال لا يعالج ضعف التأمل في جمهور الجماعات.. فالاعتزال بمثابة سجن يعتقل فيه العقل والروح معًا، فيتجمدان ويفقدان القدرة على سلامة النضج والترقي، ويدخلان بالمعتزل قدما في اتجاه المحاق والظلمة !
يجب أن نفطن إلى أن التأمل باب تقدم ورقى لاستعدادات الآدمي في كل زمان ومكان.. لأنه زيادة إحسان للتصور والمخيلة والقدرة على الملاحظة والتفطن للمزيد من العلاقات والأحجام والأبعاد لما يستطيع الآدمي معرفته عن نفسه وعن الموجودات التي تملأ الكون مما لا نهاية له، ولأنه باب المعرفة والدين والأخلاق والعلم والفلسفة والشعر والجمال والفنون والآداب والأذواق واللياقات وكل تهذيب تميز ويتميز به الإنسان عن غيره في عالم الحيوان.