الاستعداد للمحبة بين الظهور والاختفاء (3)
الاستعداد للمحبة بين الظهور والاختفاء (3)
نشر بجريدة الوطن بتاريخ 19/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الآدميون هنا وهناك، وفي كل زمان، في فقرهم وغناهم، وضعفهم وقوتهم، قليلاً ما ينصتون إلى نداء المحبة والأخوة في داخلهم.. لأنهم جميعاً مشغولون بأنفسهم.. وما يظن كل منهم أنه خيرٌ لنفسه.. وذلك بلا فطنة ولا رويّة يمكّنان من الالتفات والانتباه إلى ذلك النداء الذي لا ينقطع داخل كل منا، ويمكن أن نسمعه ونفهمه لو هدأنا واعتدلنا واعتدنا على مقاومة زحف الخوف أو طوارئه ونداء الطمع والجشع والغرور!
والإنصات إلى هذا النداء، نداء المحبة والأخوة، غاية في ذاته ينشدها ويسعى إليها قليلون في كل عصر، وأمنية يتمناها أغلب الناس، ولكن بلا سعى ولا عزيمة.. والكتب المقدسة، ومأثورات الديانات، مليئة بالنصوص التي تحث الآدميين على التآخي والتساند ومعاونة بعضهم لبعض، وتحذيرهم من استحالة أن تستقيم لهم الحياة إذا تبادلوا المقت والكراهية والحقد والكبر والحسد والإغفال والاستغفال . ولكن حدَّ من تأثير حثِّ الأديان على هذا.. حدّ منه تركيب المجتمعات البشرية المتعلق بالأعمال والأرزاق، وهيمنة الأقلية بصورة أو بأخرى على الأكثرية.. وقد حالت وتحول هذه الهيمنة ومنعت من الإفلات من هذا التركيب أو مقاومة هيمنة الأقلية على الأغلبية الأقل قوة والأكثر احتياجاً!
وهذا هو نوع الحياة التي يحياها الآدميون من ماضٍ سحيق عاشوه وطوَّروه ضمن تطورهم؛ وتغلغل في أفرادهم وجماعاتهم.. لا يختفي بمشيئة فرد أو بحركة حزب أو نتيجة قدرة دموية أو بيضاء غير دموية، ولا بمحاولة إيجاد نظام اجتماعي أو اقتصادي جديد مكان نظام قديم.. ذلك لأن هذا التراكم حصيلة حية جداً لتفاعل عادات وخبرات وعقائد وطرق تفكير وأفعال وردود أفعال لدى المحكومين والحاكمين، ولم تتغير طبيعتها ودوافعها وأغراضها لدى الثائر أو قائد الثورة، ولا لدى الداعي أو كبير الدعاة، فلا يوجد ما يحمل هؤلاء وأولاء على إزالة ذلك عاجلاً وفوراً وجبراً خوفاً من أن يسرقه الوقت، فتتراخى المواجهة وتتأخر وتضيع فرصة الإصلاح المرتقبة في وهم أو في حساب من انتواها، إن كان قد انتواها حقيقة وفعلاً. ثم تتوالى الأيام، ويتوالى استتباب الأمر وانصياع الناس، فيتسرب إلى الفهم قصداً أو بغير قصد أن الانصياع رضاء وقبول وموافقة، وتسهم الشعارات المتداولة في تكريس هذا الفهم والإيمان به والعيش والممات عليه، دون الالتفات أو التفطن إلى أن الآلاف والملايين من الأمهات والآباء قد أضناهم التعرض للعنف والقهر والتجريد والتغريب والتخريب.. فيزداد إزاء هذا اليأس والإحباط.. يزداد ارتباط الأغلبية المقهورة بالأيام الماضية وأمجادها وأحلامها ومواسمها وأعيادها، ويزداد الحنين إلى تلك الأيام، فينقل الآباء والأمهات ذلك الارتباط الحزين المليء بالأشواق والذكريات إلى الأبناء والبنات الذين لم ينفع في استخلاصهم للثورة كثرة الشعارات والدعايات والمناهج المبرمجة في المدارس والمعاهد، ولا المطبوعات والنشرات للتنظيمات الحزبية والإدارية والرقابية في المحيط القديم الذي حاولت الثورة أن تغمره بها للتأثير فيه؛ فلم يفلح ولم ينجح في إقناع الناس بالثورة والتعلق بها!
والثورات بعامة، انفجارات لكيانات اجتماعية لم تعد مكوناتها قادرة على التحمل والعمل في ظل ظروف جائرة أو فاسدة أو قمعية أو معكوسة أو محبطة، فعبّرت عن رفضها في اندفاعات عشوائية -ولا أقصد الانقلابات- لا تبالى ولا تحكمها حسابات ولا تنظيمات ولا تحكمات، ولا تخضع في مسيرتها لتحكم أحد، ولا يعرف المشاركون فيها بعضهم بعضاً ولا كيفية عمل تلك المكونات التي تشكل في مجموعها بنية الثورة.. ولذلك فإن مسيرة الثورات في عين من يراقبها مكونة من نوبات أو موجات أو دفعات على شيء من العنف.. لكلٍّ منها غالباً رجالها.. يظهرون ويتحققون مع ظهورها واختفائها.
والملاحظ أن الثورات بعامة لا تنتهي موجاتها ونوباتها إلا بخفوتها ووهنها وفراغ الحماسة الدافعة لها، أو بتحقيق غايتها بتولي دست الحكم واضطلاع القيادة التي تتشكل منها بشئون الإدارة، فتنحسر موجات الثورة تاركة لهذه القيادة الاضطلاع بالإصلاح المنشود من دوافع الأسباب التي ألهمت أو أججت الثورة.
ولا تصل الثورات بعامة إلى غايتها إلاَّ بتحقق الاندماج القوى المكونة منه في تركيبة اجتماعية واقتصادية جديدة تلائم الأغلبية الشعبية واقعاً وفعلاً.. وأن تحتوي هذه التركيبة وتضم في داخلها أي تباين في الأصول أو الأطياف أو الثروات أو المذاهب والآراء.. بحيث يحرص الناس، أو قل مجمل المجتمع، على بقاء هذه التركيبة والمحافظة عليها.. مع وجود نظام للحكم يسمح بالاستجابة للمتطلبات العامة الجديدة والتغيرات اللازمة لها والمستندة ابتداءً وانتهاءً إلى إرادة أغلبية الشعب.
ولا ينجح في إتمام الثورات وتحقيق غايتها أن تجمع إلى جوارها القديم الممقوت أو أن تتركه على قدمه ومقته مستظلاً بالقوة والبطش، فذلك باب مفتوح لصراع ظاهر وخفي يؤدى إلى ارتباكات وصراعات وتحزبات يتعذر، إن لم يستحل، معها أن تجرى المصالحة والتعايش بين الأطياف المتصارعة التي لم تنجح الثورة أو النظام الذي أسفرت عنه في احتوائها والتأليف بينها.
إن الوداد أو المحبة أو التعاطف الكامن في استعداد الآدمي، والممتد في فطريته، هي الغائب الحاضر في اللحظات القاهرة من الاندفاع والغلواء التي تمسك بالآدمي في لحظات غضبه أو انفعاله أو ثورته.. ولا سبيل لذلك إلاَّ مع نضج هذا الاستعداد المبصر والسليم، فإن أخفق وتعثر فشل المجتمع في كفالة وحدته وتآلفه، وأسرع به إلى اليأس والتشاؤم، وإلى تراكم أسباب جديدة للاعتراض والثورة.. وهذا يضعف باستمرار انطلاقة المجتمع، أي مجتمع، إلى تحقيق ما يليق بمواهبه التي خصّه بها خالقه عز وجل.. ولذلك فقد تغشى أجواء البشر أنواعٌ متعددة من الغيوم والصواعق والعواصف التي تهبّ وتخمد، وتأتى وتذهب، ويُنسِى هبوبها وخمودها أو مجيئها وذهابها، يُنسِى الحماقات التي سببتها أو صاحبتها، والتي مع تكرارها تؤدى بالمستفاد منها إلى نمو وتطور علم الآدميين وفهمهم واتساع رقعة معارفهم ومهاراتهم ووسائلهم، وإلى دراية العقل والفهم البشريين بالأسباب والنتائج، وإلى نمو قدرتهم على تصور المستقبل واحتمالاته واتساعاته، وإلى رحابة في قدرة العقل والفهم على مقابلة الأيام القادمة ومسايرتها بنجاح وفاعلية.. على قدر ما تسمح به الظروف والمقادير. إذ حياة كل حي محوطة بغيب كثيف لا يعلمه إلاَّ علام الغيوب!