الإنسان في علوم النفس والأخلاق ومستقبله في علوم الأحياء
الإنسان في علوم النفس والأخلاق ومستقبله في علوم الأحياء
نشر بجريدة الشروق الخميس 22/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أوسع المذاهب الأخلاقية تحتويه فكرة الحيوان الاجتماعي التي عَبَّر عنها أرسطو بقوله: « إن الإنسان مدنى بالطبع »، وجعلته نموذجًا متفردًا في الكون حين وصفته بأنه «حيوان ناطق».
ولم تهتد الحضارة الأوروبية منذ عهد الفلسفة الإغريقية ـ إلى مذهب محيط « بالإنسان الأخلاقي » أوسع من هذا المذهب.
أما الحضارة العربية فصفة الإنسان فيها ألصق من أن تكون مذهبًا تقابله مذاهب أخرى في معناه أو غير معناه !.. وصفة الإنسان في هذه الحضارة هي اسمه الذي لا ينفك منه.
وتكاد كل حضارة كبيرة أن تمتاز بطابعها في تعريف الإنسان الأخلاقي، أو الإنسان صاحب الضمير الذي يناط به الحساب عن الحميد والذميم من الأعمال.
والإنسان في الحضارة الإنسانية هو ظاهر وباطن كالوجود الذي خُلق فيه، وظاهره تحكمه قوانين السلوك والمقاييس الاجتماعية.
وباطن الإنسان يستقبل باطن الوجود، وحضارة الصين تميز الإنسان بالمعرفة، وتوافق الحضارة الأوروبية التي جعلته « حيوانًا ناطقًا » اجتماعيًّا، كما توافق تعريفه العلمي الذي يعنى أنه مخلوق مميز أو مخلوق صاحب ذوق وإحساس.
والإنسان في مذاهب الحضارات الكبرى مقبول بتعريفاته وصفاته في جميع الديانات والعقائد الروحية، ففي وسع العالم الديني أن يقول بصفة جامعة من هذه الصفات دون أن يعرض لمناقشتها أو يناقض اعتقادها الديني بتفسيرها، وفي وسع العالم المادي أن يفسر صفات الإنسان على حسب هذه التعريفات دون أن يلتمس مرجعًا وراء المادة والطبيعة.
وفي وسع كل قائل بمذهب من هذه المذاهب أن يعلل أخلاق الإنسان جميعًا بتنازع البقاء مع أبناء نوعه أو مع الطبيعة وعناصرها..
وفي وسعه أن يعلل الأخلاق الإنسانية جميعًا بغريزة حفظ النوع، أو بالغريزة الجنسية، أو بطلب القوة والسيادة، أو بطلب الأمن والدعة، أو باستحياء الطبيعة وتصوير الإنسان كل ما يحسه في خلده بصور الأحلام والخيال.
وإنما يبرز الخلاف في الرأي بين الدينيين والماديين حين يبحثون في المَلَكَات الفكرية التي تُناط بها الأخلاق..
وقد أثبت زملاء العالم بافلوف وتلاميذه ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ أن بقاء الحياة بعد توقف نبض القلب مرهون بسلامة المخ الذي يحتفظ بسلامته بعد توقف النبض بنحو ست دقائق، وأن الوعي الإنساني له أثره حتى في تأثير السموم القاتلة.
وسلطان الوعي على الإنسان قد بلغ درجته العليا، فيما يقول بافلوف، ففي الحيوان تتمثل وقائع العالم على الأعم الأغلب بما تحدثه من المنبهات التي تصل إلى المخ فتبعث التنبيه إلى الحواس الحيوانية، وهذه أيضًا هي المنبهات التي تصل إلينا عن طريق المؤثرات والأحاسيس والخواطر، ما عدا المؤثرات التي نتلقاها من الكلمات المسموعة أو المكتوبة… فهذه هي المؤثرات التي ينفرد بها الإنسان وتؤدى له وظيفة التنبه.
مستقبل الإنسان في علوم الأحياء
أشار الأستاذ العقاد في كتابه الضافي عن « الإنسان » إلى حذر العلم الطبيعي في تقرير مذاهبه وأحكامه، وأنه يحرص إذا ثبت لديه جديد لم يثبت كل الثبوت، ورأي من أمانة العلم عدم كتمانه، أن يقدمه على أنه ظن مرجح، وقابل للدفع والتوضيح، وكذلك فعل دارون عند إعلانه نظريته في تحول الأنواع.
وحذر العلم الطبيعي في الحكم على المستقبل أكثر وأقرب إلى التردد.
ومن بين علماء العصر ممن يحق له أن يعلن رأيًا جازمًا عن مستقبل التكوين الإنساني كما يتمثله علم الحياة: هو فيما يقول الأستاذ العقاد: البيولوجي الكبير الأستاذ « مداوار Madawar » الحاصل على جائزة نوبل للعلم الطبيعي سنة 1960، وصاحب بحوث عالية في تهيئة جسم الإنسان لقبول الأجسام الغريبة التي ترفضها أو تنفر منها خلاياه، وتبين له من تجارب يضيق بها الحصر أن الفرد الإنساني وحده لا يتكرر في مكونات بدنه، وأن كل تقسيم للحكم على بنيته قابل للخطأ، وبلغ من تحرجه أنه حين دُعى لإلقاء محاضرات سنة 1959 عن مستقبل الإنسان، اعتذر بأنه ما كان يجرؤ على اختيار هذا العنوان لولا أنه مقترح عليه، وحرص على إبداء أنه لم ينفرد بالرأي في مسألة من مسائل البحث المقترح، ولم يعلن رأيًا واحدًا قبل أن يراجع في موضوعه زملاءه والثقات في هذا الموضوع على التخصيص.
ويضيف الأستاذ العقاد أنه قبل « مداوار » بخمس عشرة سنة، عند نهاية الحرب العظمى، تقدم للإجابة على السؤال عن مستقبل الإنسان ـ عالم بيولوجي من المؤمنين بالنشوء والتطور، يضارع مكانة وشهرة « مداوار »، فكتب سلسلة من البحوث الحديثة عن القدر الإنساني Human Destiny ، ولكن على منهج مختلف عن منهج زميله، افترض فيه الغاية المرسومة للتطور، ورد مقاصده جميعًا إلى عناية إلهية تتلخص حكمتها الهادية في أنها « تريد » ولكنها تعلّم الخلائق أن تريد لنفسها، وأن تترقى هي بالإرادة على حسب جهودها.
هذا هو العالم البيولوجي الجليل « ليكونت دى نوى Du Nouy » الذي قال في كتابه « القدر الإنساني » إن استمرار النشوء والقول بالمصادفة ـ مفارقة لا تعقل.
ويقول دى نوى:
« إن بعضهم قد يرى أننا لا نزال على مسافة بعيدة من اليوم الذي يصبح فيه الإنسان وقد تطور التطور الذي يجعله أهلاً لأن يشعر بضميره، وألاَّ يكون كل حقه في المعاملة أن يُعامَل كما يُعامَل الطفل القاصر، وربما صح هذا ولكنه ـ إذا صح ـ كان خليقًا أن يصبح سببًا للاتجاه بجهوده إلى تلك الغاية. وأن الإنسان المتطور قد بلغ حالة من نمو الضمير تيسر له أن يُوَسع أفق النظر وأن يلمح الدور العظيم الذي يضطلع به في إنجاز غايات التطور، فليس الإنسان كذلك الحيوان الأعمى الذي يعمل في أعماق البحر ولا يدرى أنه يبنى بعمله جزيرة مرجانية سوف تعمر بالكائنات التي أصلح منه وأعلى، ولا ينسى أبدًا أن الشرارة الإلهية كامنة في قرارته دون غيره، وأنه هو حُر قادر على أن يهملها وأن يقتلها ـ قدرته على أن يقترب من الله وأن يعرب عن غيرته على العمل مع الله والعمل في سبيل الله.
عود على البدء
يتساءل الأستاذ العقاد بعد هذا الشوط في عرض المذاهب والآراء عن الإنسان، تساؤلاً لا يخفي أنه يلقيه وهو على ثقة من الجواب.
ـ هل صحيح أن القرآن يلقى بالإنسان غريبًا منقطعًا في القرن العشرين ( زمن تأليف الكتاب )؟
والجواب الذي لا يتردد فيه، أن القرآن على النقيض من ذلك ـ يضع الإنسان في موضعه الذي يتطلبه، فلا تسعده عقيدة أخرى أصح له وأصلح من عقيدة القرآن.. ذلك أن عصر العلاقات العالمية لا يتطلب « مواطنًا » أصح وأصلح من الإنسان الذي يؤمن بالأسرة الإنسانية، ويستنكر أباطيل العصبية ومفاخر العنصرية، ويعترف بفضل واحد متفق عليه في كل أرض وعشيرة، هو فضل الإحسان في العمل واجتناب الإساءة.
ولا يسعني وأنا أكتب هذه السطور في زماني، بعد رحيل الأستاذ العقاد بنصف قرن، إلاَّ أن أسجل أنه كان خليقًا أن يتعجب العجب كله، ويندهش الدهشة جميعها، لو قُيّض له أن يعيش ليرى ما نراه الآن من فصائل متأسلمة انجرفت إلى العنف وإراقة الدماء، وابتعدت ابتعادًا مخيفًا عن عقيدة القرآن الكريم.
وبدورنا نجيب بثقة وبلا تردد، أن هذا الجنوح لم يأت من شريعة القرآن، وأنه نابٍ مخالف مخالفة صارخة عن الإسلام، وواجبنا أن نسبر أغواره وأن نستطلع أسبابه لنواجه هذا الجنوح الشديد بما يستلزمه علاجه وتجفيفه.
أما القرآن الكريم، فقد أعطى القرن العشرين وما بعده، إنسانه الذي ليس من إنسان أصح منه وأصلح لزمانه، وأنه بإيمانه بالله وبالنبوة، إذا ما استقام عليه , أصلح لعصر « الوحدة الإنسانية » , بإيمان برب واحد هو رب العالمين , وبنبوة خاتمة للرسالات والنبوات.
وليس من موضع أكرم للإنسان وأصدق له ـ من موضعه عند أهل القرآن بين خلائق الأرض والسماء، وبين أمثاله من أبناء آدم وحواء: موضعه أنه المخلوق المميز الذي يهتدى بالعقل فيما علم وبالإيمان فيما خفي عليه من الغيب: وموضعه بين الأسرة الإنسانية، أن الجميع أبناء آدم وحواء، إخوة من عشيرة واحدة، أكرمها من اتقى الله وأحسن العمل وتجنب السوء.. لا يثاب ولا يدان إلاَّ بعمل سواه.. « تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ » ( البقرة 134 ).