الإمام الطيب والقول الطيب (3)
من تراب الطريق (1171)
نشر بجريدة المال الخميس 2/9/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الإمام الطيب والقول الطيب (3)
وهكذا نرى صاحبنا وقد استقبل الحرب صبيًّا دون العاشرة، في معهد إسنا الديني الابتدائي، لتسلمه هذه السنون المشحونة بالحروب الممتدة والتوتر، كهلًا وعالمًا جليلاً يزيّن عام 2001 دار الإفتاء مفتيًا للديار المصرية، ومنها إلى رئاسة جامعة الأزهر أقدم جامعة في التاريخ، حاملًا مسئولياتها الجسام لسبع سنوات من عام 2003 إلى عام 2010، حيث تولى مشيخة الأزهر شيخًا جليلاً وعالمًا فذًّا في الستين من عمره المديد بمشيئة الله.
في أوائل العقد الأول من هذا القرن، تعرفت إلى الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر، فأخذتني شخصيته اللافتة، علمًا عريضًا، وتواضعًا جمًّا، ودماثةً وخلقّا رفيعًا، وإذا به يلفت أنظار العالم. كتبت عنه في هذا المكان ــ بجريدة المال ـــ من ثلاث عشرة سنة وتحديدًا في 9 يونيو 2008، شدني إلى الكتابة ـــ الحديث المنصف لكاتبنا الأديب الراحل جمال الغيطاني، عن الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر، الذي انبهر بشخصيته وعلمه وتواضعه، وبمحاضرته الرائعة التي ألقاها بملتقى الأديان في الدوحة، ما شدني أكثر هو قدرة الأستاذ الغيطاني على الغوص وقراءة أعماق هذه الشخصية الفذة، وكيف اهتدى إلى أن لعالمنا الجليل قوة داخلية عميقة، هي التي أضفت عليه مزيجًا نادرا من الثقة والتواضع الجم.
أحسن الأستاذ الغيطاني صنعاً بنشر كلمة الدكتور الطيب كاملة في مجلة أخبار الأدب التي يرأس تحريرها، وهي مجلة قيّمة سبق أن حدثتك عنها، وأحسن صنعاً بإعادة الكتابة عن الدكتور أحمد الطيب ومنهجه وأسلوبه في يومياته بالأخبار 28/5/2008 ـ وكيف لفت عالمنا الجليل إليه الأنظار وأصبح مركزاً ومحوراً للمؤتمر بشخصيته وبكلمته ومقاصدها وجرأتها وأخلاقياتها الرفيعة.
أرسلت في مقالي الذي أعيد نشره بالكتاب الأول من مجموعة « من تراب الطريق 7 » ـــ أرسلت تحيه للمرحوم الأستاذ جمال الغيطانى على ما سبره وبهره وكتبه، واستأنفت أقول يومها للقارئ إنه ليس بوسعي هنا أن أنقل إليك كلمة الدكتور الطيب، أو حتى خطوطها العريضة التي خرجت بالإسلام من قفص الاتهام إلى باحة الفهم لشريعته السمحاء وإيمانه باختلاف الخلق واحترامه للرسالات السماوية، وبراءته من العنف المروم إلصاقه به، بينما هو مسلك آخرين، استعرض بعضه بتمكن وأدب رفيع، عاتباً في هدوء على حملة التبشير المنظم بين فقراء المسلمين والهجوم على الإسلام ومن مؤسسات دينية كبرى من المفترض أن تكون جسراً للتواصل والحوار بين الأديان بدلاً من إثارة الحساسيات وتشويه العلاقات !
ليس هدفي، ولا هو بمقدوري ـــ آنذاك ـــ، أن أنقل إلى القارئ تحليلي للكلمة الرائعة التي ألقاها الدكتور أحمد الطيب، ولكنى أردت أن أؤكد على المعاني التي استخلصها الأستاذ / جمال الغيطانى من تحليله لهذه الشخصية التي أتيح لي أن أتلامس معها بحب وتقدير في مجمع البحوث الإسلامية، فلمست فيها ما أشار إليه وزيادة. فهو شخصية فريدة جمعت بين العلم والتمكن، والدماثة والتواضع، وأعماق داخلية التأمت فيها روافد عديدة جعلت منه قيمة إسلامية بالغة العمق والرقى والتأثير.
أردت أيضا أن أشير إلى أن شخصية الداعية الإسلامي، هي المحز في قيمة عطائه وأثره، وأن مؤسساتنا الدينية متمثلة في الأزهر الشريف وإمامه الأكبر وأركانها وعلمائها ـ حافلة بشخصيات نادرة، مالكة لعلم عريض، ومنهج قويم، وبيان راق، وأن أنبه إلى أن خطابنا الثقافي والإعلامي لا يزال بعيداً عن استثمار هذا الرصيد من علماء وأركان الأزهر الشريف، وأنه لو أتيحت لهم المساحة الكافية الواجبة، لوقانا الاستماع إليهم والتلقي عنهم ما يصيبنا الآن من سوء فهم البعض للإسلام، وجنوح شارد ينسب نفسه إلى الإسـلام وهو منه بعيد ! بينما مؤسساتنـا الدينية عامرة بأعلام نجباء كفيلون بأن يزيحوا عن الإسلام ويردوا عنه حملات البغض والكراهية، ويقدموه إلى الكافة بوجهه الصبوح كمنارة عريضة للفهم والإيمان والهداية للإنسانية.
بعد سنوات، أتيح لي أن أعاود الكتابة ولكن بتفصيل عن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وعن أعماله وكتاباته ومحاضراته وكلماته التي ألقاها في الملتقيات الإسلامية، ودوره الرائع في تحديث الأزهر الشريف، وفي تجديد الفكر والخطاب الديني، وأودعته ما كتبته في كتاب « التجديد في الفكر والخطاب الديني » ــ الذي أصدرته دار الشروق.
وها أنذا أعود لأتحدث إليك عن الإمام الطيب والقول الطيب.