الإصلاح بين سندان الفساد و مطرقة مقاومي التغيير (2)
بقلم أ / صابر شعبان أبو على – المحامى
تَنَاوَلَ المَقَالُ السَّابِقُ عَواقِب شُيُوع الانْحِراف الفِكْرِىّ وَالعَقَائِدىّ فِى مُجْتَمَعٍ مَا وَدَوْرُ دُعَاةِ الاصْلاحِ فِى هَذَا المُجْتَمَعِ مِنْ خِلالِ السَّعْى إلى اصْلاحِه بِالدَعْوَةِ إلى تَرسِيخِ المَبادِىء السَّامِية و إزَالَة الخَللِ وَالفَسَادِ المُنتشِر في قِطَاعَاتِ المُجْتَمَعِ المُخْتَلفَة ومَايّزْنَّا بَينَ التَغْييرِ الشَّامِل وَالجِذْرِيّ الفُجَائِيّ بِاسْتِخْدَامِ القُوة عَنْ طَرِيقِ الثًّورة وَبَين الإصْلاحِ بِمُعَالجَةِ المَشَاكِل وَالأخْطَاء دُونَ المَسَاس بأسَاسِيّاتِ النِظَام ثُم عَرجْنًّا إلَى مَا يُكَابِدَهُ الإصْلاحِيُون فِى مُحَاوَلاتِهم تِلك مَابَين الاعْتِيّادِ والاعْتِقَادِ وَمَدى مَا يُشَكْلُهُ تَخُوفُ بَعْض الناسِ مِنْ التغْييرِ كَعَائِقٍ مِنْ عَوَائِقِ الاصْلاحِ وانتَهى بِنا المَطَافُ إلى التَسَاؤُل عَنْ مَا هِيّة خُطُواتِ الإصْلاحِ وَمِن أينَ تَبْدَأ وَكَيفَ تَسِير؟
وعَطْفَاً عَلى مَا سَبَقَ فَإنًّ أُوَلى خُطُوَاتِ الإصْلاحِ تَبْدَأُ بِتَغْيير عُقُولِ النَّاسِ وَأفْكَارِهم وَمَا تَرَسَّخَ فِيها مِنْ مُعتَقَدَاتٍ خَاطِئة وَأفْكَارٍ بَالية أو بِمَعنى أوضَح تَحْرِيك جُمُود المَورُوث الفِكرىّ الذّى يُسَيطِرُ عَلى العَقْلِ الجَمعِى للمُجْتَمَعِ.
فَقَانُون تَغْيير العَقلياتِ (لأينشتاين) يَقُول: ( لَنْ نَستَطِيع أَنْ نُوَاجه -أَو نُعَدل- المَشَاكِل المُزمِنة -التِي نُعانِي مِنها- بِنَفسِ العَقْلِيّاتِ التي أَوْجَدت تِلكَ المَشَاكِل )
وَقَد لخَصَ الكَاتِبُ الكَبير جُورج بِرنَارد شُو الأمْرَ فِى عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِى أنَّ ( التَقَدُم مُستَحِيل بِدُون تَغْيير وَأُولَئِكَ الذين لا يَسْتَطِيعُون تَغيير عُقُولِهم لا يَستَطِيعُونَ تَغْيير أي شَيء)
وَالتَغيير لَيسَ مَطلُوبَاً لِذَاتِهِ وَإنَّما هُو وَسِيلَة للوصُولِ إلى هَدَفٍ وَهُو المُستَقبَل الأفْضَل لِذا يَنبغِى أنْ يَكُون هُنَاكَ مُبَرراً للتَغيير وَالتَغييرُ الذى لا يَنْبُع مِنْ دَوَافِع وَأسْبَابٍ يَكُون تَغيير عَشوائى غَير مُخَطَطٍ وَبِدُون هَدَفٍ غَالِبَاً مَا يَفْشَل وَهُنا يَثُورُ التَسَاؤُل هَل الإصْلاحُ إدَارَةٌ أَمْ إرَادَةٌ؟
إرَادَةُ التَغيير وَالرَغْبَةُ فِيهِ هِى حَجَرُ الزاوِيَة وَهِى نُقطَة البِدَاية فِى عَمَلِية التَغيير فَبِدُون تِلكَ الرَغْبَة ُلا تَكُون هُناكَ حَاجَة للتَغْيير وَأنْ يَكُون هَذا التَغيير نَابِعَاً مِنْ دَاخِل الأشخَاصِ وَهَذا أمْرٌ ضَرُورى لِنَجَاحِ عَمَلية التَغيير لأنَّ بِدَاية التَغيير مِن الدَاخِل هُو الطريق الصَحِيح لِنَجَاح التَغيير( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سُورةُ الرَّعْدُ الآية 11
وَهَذِهِ الإرَادَةُ- إرَادَةُ التَغيير- لابُد مِن تَوافرها فِى الحَاكِم وَالمَحْكُومِين.. القَادَةِ- فِى أى مَوقِعٍ وَأى مُؤَسَسَةٍ- وَمَنْ يَنْضَونَ تَحْتَ لِوَاءِهم وَإذا تَتَبَعنا التارِيخَ لأنبَأَنَا أنَّ القَادة وَالزُعَمَاء يَدخُلونَ التارِيخَ بِأعْمَالِهم التي تُغير تَاريخَ أُمتهم لا بِالسنَواتِ التي عَاشُوهَا يَحْكُمُون فَالخَلَيفَة العَباسِيّ النَّاصِر لِدِينِ الله قَضَى سِتًاً وَأربَعِين سَنة فِي مَنْصِبِ الخِلافَةِ (575هـ – 622هـ) وَمَضَى دُونَ أنْ يَحْفُر لِنفْسِهِ مَكاناً فِي تَارِيخِ أُمتِه بَينَمَا عَلى النقِيضِ نَجِدُ الخَليفَة عُمر بن عَبدِ العَزِيزِ قَد تَبوَّأ مَكانةً سَامِقَةً فِي تَارِيخِنَا الإسْلامِيّ وَيَزدَادُ عَجَبُكَ حِينَ تَعْلم أنَّه احْتلّ هَذه المَكَانَة بِسنتينِ وَبِضعَة أَشهُرٍ قَضاهَا خَليفة للمُسلمِين وَكان عُمر بن عَبدِ العَزيز وَاحداً ممنْ دَخَلُوا التاريخَ بِأعْمَالِه العَظِيمَة وَإدَارَتِهِ العَادلة للدَولةِ حَتى تَجَدد الأمَلُ فِي النفُوسِ أنه بِالإمكَانِ عَودَة حُكم الخُلفاءِ الراشِدين وَاقعاً ملموساً لا قِصَصاً تُروى ولا أمَانيّ تُطلب ولا خيالاً يُتصوَّر بل حقيقة يشهدها القَاصِى وَالدَانِى
وَاحتَاجَ عُمر بن عَبدِ العَزيزِ لإحْدَاثِ هَذا التغيير فِي حَياة الأُمة إلى ثَلاثِين شهراً لا إلى سنواتٍ طَويلة وَلِهذا دَلالته حَيثُ إنَّ الأمة كَانت حَية نَابِضَة بِالإيمَانِ مَليئة بِالرجَالِ الذينْ يَجمَعُون- إلى جَانِبِ الصلاح- القُدرة وَالكَفَاءَة وَلو كَانت الأُمة مُجدبة مِن أمثالِ هَؤُلاءِ لما استطاعَ عُمر أنْ يَقُوم بِهذا الإصلاحِ العَظِيمِ فِي هَذه الفترةِ الوَجِيزة.
هَذا غَيضٌ مِنْ فَيضٍ وَمَثلٌ مِنْ الأمثلةِ التى تَدُل عَلى أنَّ تَقييم المَسئُول ليس بِمَا حَازَ ولكنْ بِالإنْجَازِ وَ بِالعَطَاءِ لا بِطُولِ البَقَاءِ.. فَلِسَانُ الحَالِ أبْلغُ مِنْ لِسَانِ المَقَالِ وَصَوتُ الفِعْلِ أقوى وَأعْذَبُ مِنْ صَوتِ القَولِ وَلا يُمكِنْ للتغيير أنْ يَنْجَح وَيَستَمِر بِالكَلامِ وَالخُطَبِ وَلكِن بِالمُمَارَسَةِ وَالتَطبِيق.
وَالتغيير الاصْلاحِى يَجِبُ أنْ يَكُون تَدرِيجياً وَبِالبِنَاءِ عَلى مَا هُو قَائِم فِعْلياً عَلى أُسِسٍ صَحِيحَة وَالحَدِيثُ عَن ذَلكَ مَوصُول إنْ كَانَ العُمُر يَطُول.