الإسلام وحظر البدع والمصدقات 

فى دوحة الإسلام (104)

بقلم الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 9/2/2022 

حثنا الإسلام على وجوب تقديم العلم والعلماء ، وتجنب الاجتراء فى الدين بغير علم ، وإدراك أن العلم بالفقه وأصوله بحر زاخر عكف عليه علماء خلصاء أخلصوا الدين لله ، فصاروا منارات تضىء وتهدى .

ومن الملحوظ أن الإسلام صار ممتحنًا هذه الأيام ببعضٍ من أبنائه ، لقلّة علم أو جمود أو تشدد أو اندفاع ، مثلما هو مبتلى بأعداء .. معلنين ومتسترين .. يجاهر البعض منهم باستهدافهم الإسلام ، ويتخفى البعض أو يلتفون للوصول إلى بغيتهم ، ويلتقطون أى هنة أو خطأ يقع ممن ساء فهمهم أو قل علمهم وغلبهم جمودهم أو جموحهم أو اندفاعهم ، ليتصايحوا مغالطين : هذا هو الإسلام !

ومن الأسباب التى تقيم حائلاً دون العلم الصحيح ، شيوع المصدقات التى تلتصق بالدين بحكم العادة ، وهى ليست من الدين ، أو الخلط بين السنة والبدعة ، أو عدم التفرقة العارفة المدركة بين ما صدر عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أقوال أو أفعال أو تقريرات بقصد التشريع أو الاقتداء ، وبين ما صدر بغير قصد التشريع أو الاقتداء ، وأشهر الأمثلة على هذا النوع الأخير ما قاله عليه الصلاة والسلام فى تأبير النخيل : « أنتم أعلم بشئون دنياكم » .

ولفضيلة العالم الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز ، كتاب من كتبه الضافية بعنوان : «الميزان بين السنة والبدعة » .. غايته أن يحمى السنة المطهرة من أن تختلط بها البدعة .. وكلمتا السنة والبدعة صارتا فى الاستعمال الشرعى إلى معنى أخص من استعمالهما فى الاستعمال اللغوى ؛ بل صارت كل واحدة منهما إذا وردت مطلقة عن القرائن فى لسان النبوة والسلف الصالح ـ اختصت بوصف ثان تباين به الأخرى .

فكلمة « السنة » على حقيقتها الشرعية فى الصدر الأول للإسلام ، لا تتناول من الطرائق الدينية إلاَّ ما كان حقًا وصوابًا , وهو الطريق الذى رسمه لنا كتاب الله وبيان رسوله , نصًا أو استنباطًا . أما كلمة « البدعة » فلم تكن تشير إلاَّ إلى ما هو باطل وضلال , والمعنى بها الطرائق المخترعة التى ليس لها مستند من كتاب الله ولا فى سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم , ولذلك تكرر ذمها بصيغ العموم والشمول , كما فى الحديث الشريف : « إياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة » .

وبعد الصدر الأول , وقف بعض علماء الشريعة عند هذا المعنى بغير زيادة ولا نقص , بينما مضى فريق يتجه فى معنى السنة إلى تخصيص ثالث , ورجع فى معنى البدعة إلى تعميم أوسع يُقَرِّبُهُ من المعنى اللغوى . فالسنة عند هؤلاء هى ما جرى العمل به فى عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم , والبدعة كل أمر جديد لم يعهد بشخصه ولم يسبق بصورته المعينة فى عصر النبوة .

فهل البدع كلها ضلالات مذمومة ؟ . تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف هذين الاصطلاحين , فعلى الاصطلاح الأول , يجرى النظر على أنه لا يسع مسلمًا فضلاً عن إمام من أئمة المسلمين أن يفصل فى البدع ـ بين مستحسن وغير مستحسن , فكل اختراع فى الدين بلا دليل عليه من الشرع إنما هو اغتصاب لمنصب الشارع واستدراك عليه , وأقل ما يقال فيه : إنه باطل مردود على صاحبه « فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ » ( يونس 32 ) .. وفى حديث رواه البخارى بسنده : « من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » . ومن هنا روى عن الإمام مالك قوله : « من ابتدع فى الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خان الرسالة لأن الله تعالى يقول : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » ( المائدة 3 ) .

أما فى الاصطلاح الثانى ، فلا شك أن المحدثات فيها الحسن والسيئ . فكل ما لم يشهد له دليل معتبر شرعًا فهو بدعة مذمومة وإن أيده صاحبه بالشبهات والتأويلات ، وكل ما شهد له دليل شرعى من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال بالقياس ، أو بغيره من الأدلة التى أرشد إليها الكتاب والسنة ، فهو حسن وإن لم يكن قد وجد بنفسه على عهد النبوة .

روى عن الشافعى قوله : « البدعة بدعتان : محمودة ومذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالفها فهو مذموم » . وقال فيما يراه البيهقى من مناقبه : « المحدثات ضربان : ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة ، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهو البدعة المحمودة » . وفى رواية : « فهذه بدعة غير مذمومة» . وعلى هذا الاصطلاح بنى شيخ الإسلام العز بن عبد السلام وتلميذه الإمام شهاب الدين القرافى مذهبهما فى تقسيم البدعة ـ أى المستحدث ـ إلى خمسة أقسام : الواجب ـ كجمع المصحف ، والمندوب ـ كجماعة التراويح ، والمباح ـ كالتوسع فى ألوان الطعام ، والمكروه ـ كزخرفة المساجد ، والحرام ـ كالرهبانية .

وهذا الاختلاف فيما يرى فضيلة الدكتور محمد عبد الله دراز ـ ليس اختلافًا طبيعيًا فى موضوع واحد ، وإنما هو خلاف اسمى تابع لاختلاف موضوع الحكم .

على أنه إذا كانت السنة هى الطريقة التى رسمها لنا النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنسلكها فى عقائدنا ، وفى أخلاقنا ، وفى أقوالنا وأعمالنا ، وفى مصالح دنيانا وآخرتنا ، وكانت البدعة هى إحداث طريقة مخالفة لها فى نوع من هذه الأنواع مع جعلها دينًا بدل ذلك الدين الذى شرعه الله على لسان رسوله ، كان العلم بالسنة والبدعة هو علم الدين بجملته ، أصوله وفروعه ظاهره وباطنه.

وعلى ذلك فإن القائم ببيان حقيقة السنة وتطهيرها من شوائب البدعة فى الاعتقاد أو فى التخلق أو فى العمل ، قائم بمنصب الوراثة للرسل عليهم السلام ـ فى هداية العالمين ، فإذا صادق عملُه قولَه ، وكان قدوةً ، صار ممن قال القرآن المجيد فيهم : «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » ( فصلت 33 ) .

 

إن مع العسر يسرا

 

كثيرًا ما نردد لأنفسنا قول القرآن المجيد : « إن مع العسر يسرا » . ويستوقفنا تكرار ذات العبارة فى الآية الواحدة ، منوهين إلى أن ذلك تأكيد ربانى لا يفوت . فهل وعيناه ونعيه حقا ؟! لو تأملنا لعرفنا أن بعد النصب والتعب راحة ، وبعد الظمأ ارتواء ، وبعد الجوع مهما طال شبع ، وبعد الأرق مهما سهدنا نوم ، وبعد المرض تأتى بفرج الله العافية ، فكم اهتدى الإنسان بعد ضلال ، وتغشته الهداية بعد معاناة ، وجاءه النور بعد ظلام !

الحصيف لا يضيق ذرعًا بما يحيط أو يمسك به ، فدوام الحال من المحال ! وأجمل الجلد والصبر والاحتمال ـ انتظار الفرج . أليس الحق سبحانه وتعالى يقول فى محكـم التنزيل : « فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ » ؟.. الذكى الحصيف من يلملم إرادته وعزمه من براثن الأشجان والأحزان .. أن يصنع من مرارة الليمون شرابا حلوًا هنيئًا . أن يحول الخسائر إلى أرباح ، أن يتعلم حلاوة الرضا والتسليم . فعسى أن يكره الإنسان حاضرًا يضنيه لأنه خير له من شر آخر لا يعلمه .. ثم هو بقلبه موصول بالسماء ، هى مفتوحة على الدوام لضراعته .. « أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ».. إليه سبحانه يفزع المكروب ، ويستغيث المنكوب .. إنه الله تعالى .. لا إله إلاّ هو ، ولا ملجأ منه إلاّ إليه .

بشرى لكل من صبر على ما يكره ، ولم يفقد إيمانه لحظة ، ولا تزعزع منه اليقين ..

بشرى له لما تجمل به ، وبما وعده العزيز المهيمن إياه .. بشرى له بما قدم وبما سينال .. فهو سبحانه قد بشر الصابرين ووعد الصامدين بعظيم الأجر والثواب . وجزيل الرضوان ..

طوبى له أن عرف أمر الولى الحميد فعمل به، واستحق الأجر عليه .

وطوبى له أن عرف الحياة وبلى حقيقتها وعلم أنها ضيق وفرج .. عسر ويسر .. كرب وسرور .. أن العاقبة فيها هى للمتجملين ثابتى العزم واليقين .. الذين مع صبرهم يعطون ولا يملون بذلاً ولا عطاء . ينتظرون الثمر مهما أظلم الليل أو طال المدى .. فهو إلى حين .. وأن نور الفرج لأبد سيعم بضيائه حياة المؤمنين وحنايا قلوب العارفين ..

طوبى لهؤلاء وأولاء ، وهنيئاً لهم قول الحق تبارك وتعالى فى الحديث القدسى :

« إذا ابتليت عبداً من عبادى مؤمناً فحمدنى وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا » 0

لا دين لمن لا تقوى له !

ولا دين لمن لا يتقى الله فى عباده !

ما ظنكم فى الدين الذى يحرم قتل العصفور عبثًا ؟!

هل يسمح بقتل عباد الله عبثًا ؟؟؟!!!

منكم لله !

الحصيف الورع يميز بين الدنيا والآخرة .. يعمل للدنيا بقدر بقائه فيها ، وللآخرة بقدر بقائه فيها .

زر الذهاب إلى الأعلى