الإسلام والموسيقى والغناء

فى دوحة الإسلام (110)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 23/3/2022

ــــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

      الموسيقى هى ألحان السماء .. لأنها ألحان الكون الذى خلقه رب العرش العظيم ، ورب السموات والعالمين .. الموسيقى أنغام صوتية فى خلق الكون قبل أن تكون تواليف من صنع البشر .. الموسيقى موجودة فى صوت وصفير الرياح ، فى خرير الماء ، فى حفيف الأشجار ، فى زقزقة العصافير ، وهديل الحمام ، وَدعاء الكروان ، وشدو البلابل ، وغناء العندليب ، والشحرور ، والزرياب .. هذه الطيور شدوها موسيقى ، وغناؤها ألحان .

      لم يكن الإنسان هو خالق ولا مبدع هذا كله ، فخالقه هو الله عز وجل ، والموسيقى البشرية التى من تأليف الإنسان ، هى فى أصلها محاكاة لبديع ما فى هذا الكون من أصوات منها صوت كلمات الإنسان ذاته .. بمحاكاة تركب وتولف من إيقاعات وأوزان هذه الموسيقى الكونية تواليف وأنغامًا جديدة قد تصافح الآذان صافية عبر أدوات عزف الأنغام التى زادت وتطورت بتطور البشرية وفنون صناعة الآلات الموسيقية التى تتميز كل منها عن غيرها .

     ومع تقدم الموسيقى ، ومعها الغناء ، كإبداعات بشرية ، صارا من وسائل التعبير التى تشارك الكلمة ، فى التعبير وإضفاء ما يزيد الكلمة جلاءً وتأثيرًا .. رأينا ذلك ولا نزال فى ترانيم الأديان ، ورأيناه ولا نزال فى تلاوة وترتيل القرآن المجيد . فمع أن القرآن فيه بذاته معمار موسيقى لم يستطع مجاراته بشر ، فإن هذا المعمار الموسيقى بالقرآن قد استحث الإنسان على التجويد فى قراءته وفى تلاوته وترتيله ، وخرجت من ذلك مدارس بتنا نراها ونستمتع بها وبتجويد أصوات المقرئين الموهوبين لها ، ونستمتع روحانيًّا ودينيًّا بتلاوات الشيخ محمد رفعت ، والشيخ على محمود ، والشيوخ عبد الفتاح الشعشاعى ، وأبو العينين شعيشع ، ومصطفى إسماعيل ، وعبد الباسط عبد الصمد ، ومحمود على البنا ، وعبد العظيم زاهر ، ومحمد الطبلاوى ، ومحمود خليل الحصرى ، وأترابهم فى مدارس القراءات التى أشجتنا وعمقت إحساسنا بما فى القرآن المجيد من موسيقى جذبت إلى جوار المقرئين ـ المبدعين من المطربين ، فقرأوا القرآن ورتلوه كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما  .

       وعلى مدى قرون ونحن شأننا شأن الإنسانية والإنسان فى كل مكان , نسمع الموسيقى والغناء , ونشجى بهم , ويرق شعورنا وتترقى أحاسيسنا وتسمو أرواحنا بما نسمعه ونتلقاه , ولم يقل قائل , ولا متقول , أو يفكر أحد , فى استئصال أو إلغاء النغم والموسيقى والغناء , بذريعة أن البعض استخدموا هذا أو تلك استخدامًا منحرفًا معيبًا وخارجًا . فقد كان هذا شأن الكلمة ذاتها , فلم يدعُ أحد , إلى إيقاف التعبير بالكلمات بحجة أن البعض استخدمها فى الهجاء أو فى السب أو القذف أو الطعن أو التجريح أو الإثارة أو الإهاجة أو إشعال الفتن والحروب والخصومات والمشاحنات , فذات هذه الكلمة هى هى التى صيغ بها القرآن المجيد وأحاديث الرسل والأنبياء , وأشعار الشعراء , وروايات وقصص ومقامات الأدباء , وكتبت بها العلوم والمصنفات , مثلما حملت وتحمل إلينا تاريخ الإنسانية , والمنطق والفلسفة والاقتصاد والفقه والقانون وعلم النفس والإدارة والمحاسبة والمالية , وهى هى التى بها تُصاغ القوانين الوضعية , والقرارات واللوائح , وبها يتحدث الدعاة ويخطب الخطباء , وتُلْقى المواعظ والحكم والأوابد والأمثال . لم يحارب الإنسان هذا كله أو يحذفه من الواقع الإنسانى بزعم محاربة انحرافات استخدام الكلمة , وإنما تصدى ويتصدى لهذه الانحرافات قاصرًا حربه ومقاومته عليها لا على الكلمة التى لا يمكن أن تستغنى عنها الإنسانية .

     كذلك الموسيقى ، هى واقع سماوى وإنسانى رائع ، لا يحذف روعته من الوجود نشاز منحرف فى استخدام الموسيقى أو الغناء لإثارة الغرائز والشهوات ، فلكل مقام مقال , ومحاربة الانحرافات بشتى صورها واجبة ، ولكن إلغاء الطبيعة محال .

     من اللافت أن تحدث المصادرة على الموسيقى والغناء وعلى الحياة باسم الإسلام ، وفى القرن الواحد والعشرين ، والدنيا من حولنا تعيش الحياة بكل قيم العطاء والتجدد  ، وبعد قرون سبقت فيها كتابات عن السماع ، أوضحت أن الموسيقى والغناء ظاهرة إنسانية تشترك فيها جميع الأمم ، ولم يحرمه الإسلام ، فهو من خصائص الطباع البشرية . كتب عن ذلك ابن القيسرانى عالم الحديث المتوفى سنة 507 هـ ، فى كتابه الضافى : « السماع » وحققه الأستاذ القدير أبو الوفا المراغى ، ونشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى عام1970 وأعاد نشره عام 2010  ، بتقديم للأستاذ الفقيه محمد أبو الفضل إبراهيم رئيس لجنة إحياء التراث الإسلامى بالمجلس .

    وقد صح فيما استعرضه ابن القيسرانى ـ أحاديث ومرويات أباحت الاستماع إلى الموسيقى والغناء ، وصح أن بعض الصحابة والتابعين سمعوا الغناء وحضروا مجالسه ، بل صح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل بيت عائشة وعندها جاريتان تغنيان فلم ينههما ، ثم دخل أبو بكر فانتهرهما فقال الرسول : « دعهما يا أبا بكر» ، وروى أنه أبدى عن إجازته مشاهدة لعب الأحباش بالحراب ، لكى يعلم الآخرون أن فى الإسلام فسحة ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قــال : « بعثت بالحنيفية السمحة ، ومن خالف سنتى فليس منى » .

       فى فتوى لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على أفتى بأن سماع الموسيقى وحضور مجالسها وتعلّمها أيًّا كانت آلاتها من المباحات ما لم تكن محركة للغرائز باعثة على الهوى والغواية والغزل والمجون مقترنة بالخمر والرقص والفسق والفجور ، أو اتخذت وسيلة للمحرمات  .

       وهذا الاستدراك الذى ساقته الفتوى ينصرف إلى المنكرات ، ولا يمس الإباحة ، وقد قال جل شأنه : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » ( الأعراف 32)

    وفى المجلد / 39 ، من الفتاوى الإسلامية ـ إصدار دار الإفتاء ، نجد أن الكلام إن كان يدعو إلى معصية فهو حرام وإن لم يلحن ، وأن الغناء بغير آلة جائز ، ما لم يكن كلامًا محرمًا ، فالحرام كامن فى مضمون الكلام ومرماه لا فى محض التلحين أو الغناء ، وأن الاستماع إلى المعازف أو استخدامها أمر مباح ما دام لم يقترن بمحرم . وأوردت الفتوى أن الإسلام دين واقعى لا يحلق فى الخيال ، لم يفترض فى البشر أن يكون كل كلامهم ذكرًا ، وكل صمتهم فكرًا ، وكل سماعهم قرآنًا ، ولكن اعترف الإسلام بفطرهم وغرائزهم التى خلقهم الله عليها ، وقد خلقهم الله يفرحون ويمرحون ، وقد كان لنا فى رسول الله أسوة حسنة ، فمع طول قيامه حتى تتورم قدماه ، كان مع ذلك يحب الطيبات ويمشى ويبتسم ويداعب ولا يقول إلاَّ حقًا ، وكذلك الصحابة . فإن القلوب إذا كلّت ملّت .

     والآلات الموسيقية ـ فيما أوردت الفتوى الحديثة نسبيًا ـ مثل أصوات الإنسان الملحنة التى هى نغم ، والنغم شىء غريزى فطرى فى الإنسان خلق معه ، وأصل هذه الأصوات قائم فى الكون على تفاوت فى قوتها ونوعها ، كأصوات الرعد والمطر ، وهدير البحر ، وأصوات الحيوانات والطيور ، التى منها العادى كأصوات الخيول ورغاء الإبل ، ومنها الشجى الناعم كصدح العندليب وغناء الكروان ، وكلها سمعها الإنسان منذ نشأته الأولى.

     والغناء كلام ملحن ، قد تصاحبه أو لا تصاحبه آلات موسيقية أو معازف ، ومنه الجيد والردىء ، والطيب وغير الطيب . والمعازف هى الآلات التى يُعزف بها ، والكلام الطيب المفهوم ليس حرامًا ، والصوت الطيب الموزون غير محرم ، فإذا تضمن محظورًا فهو محرم ، أو كما قال الشافعـى فى الشعر :

  « الشعر كلام ، فحسنه حسن ، وقبيحه قبيح ».

     ها قد رأيت فتاوى دار الإفتاء ، وإحداها صادرة سنة 1980 عن فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على ، والثانية صادرة سنة 2011 فى عهد فضيلة الدكتور على جمعة ، ورأيت طرفًا مما كتبه ابن القيسرانى عالم الحديث ، من نحو تسعة قرون ، فى حِل الموسيقى والغناء ، وطرفًا مما قاله الإمام أبو حامد الغزالى وغيره من الأئمة فـى هذا الباب .

     هذا العمل عمل فقهى جليل ، له قاعدة معرفية واسعة من العلم باللغة ، والعلم الواسع بالقرآن والسنة ، وبمواضع الأحكام الفقهية فيهما ، وبدقائقها ومعانيها ، ومراتب السنة من حيث روايتها وأقسامها من ناحية السند ، وإدراك المرامى والمناسبات والأحوال التى صدرت فى شأنها ، والعلم والتمييز بين العام منها والخاص ، وبين المطلق والمقيد ، فضلاً عن المعرفة بمواضع الإجماع . والعلم بذلك كله ليس علم العوام ، أو النتف التى يلتقطها هذا أو ذاك من هنا أو هناك ، وإنما هو طريق طويل وجاد وشاق يقطعه الطالب حتى يستوى له العلم مع صحة الفهم وحسن التقدير ، ليتصدى لهذه المهام التى تحكم حياة المسلمين ، وتنير لهم الطريق .

     أفلح من طلب العلم ليعمل به ، لا ليباهى به العلماء ، ولا ليمارى به السفهاء  !

      من حديث الهادى البشير عليه الصلاة والسلام :

       « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ».

     مصابيح القلوب الطاهرة فى أصل الفطرة .. منيرة قبل الشرائع .. ينطبق عليها قول اللطيف الخبير :

     « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ » (النور : 35) .

زر الذهاب إلى الأعلى