الإسلام والديمقراطية السياسية (1)

الإسلام والديمقراطية السياسية (1)

نشر بجريدة الشروق الخميس 2/9/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الحكم الديمقراطي حقائق وأشكال، أو هو جوهر وعرض حسب تعبير المناطقة، فأما الجوهر فهو حرية المحكومين في اختيار حكومتهم، وأما العرض أو الأشكال فهو نصوص الدساتير وقوانين الانتخاب وصناديق الاقتراع وما إليها.

ومن المؤرخين الذين كتبوا في تاريخ الإسلام السياسي، من نظر إلى العرض وترك الجوهر، فعلقوا على مبايعة الخلفاء ـ وهي الجوهر ـ بأنها لم تجر على القواعد الديمقراطية، قاصدين بذلك أسلوب أو صناديق الاقتراع وأوراقه، بينما هذا عَرَض أو أشكال كانت تناسب زمانها والإمكانيات المتوافرة أو المتاحة فيه. وفي أمة غالب فيها الأمية، بينما كانت « المبايعة » هي الجوهر وكانت بالمبايعة الشفوية بدل الصناديق.

والنبي عليه الصلاة والسلام لم يعين تحديدًا خليفة من بعده، وأبو بكر وإن حدد أو أوصى بمبايعة عمر بن الخطاب، إلاَّ أن وصيته لم تكن ملزمة للناس بالقوة والإكراه، أما ما سلكه عمر فكان استخلافًا للستة الباقين على قيد الحياة من العشرة المبشرين بالجنة الذين توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام راضيًا عنهم، ليكون الاختيار الحر من بينهم. وضم إلى مجلس الشورى الستة، شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء، والحسن بن على وعبد الله بن عباس لقرابتهما راجيًا أن يكون في حضورهما بركة على ألا يكون لهما من الأمر شيء، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا فقط دون أن يكون له في الأمر شيء، وليكون مرجحًا إذا تساوت الأصوات بين الستة.

وقد انتهي الأمر على ما هو معروف بارتضاء عبد الرحمن بن عوف بعد أن خلع نفسه ليكون حكمًا بين الستة، فشاور طويلاً، ثم إنه دعا بعلى بن أبى طالب فناجاه طويلاً، وكذلك عثمان بن عفان، بعد أن رأي الميل إليهما، ثم أخذ على الجميع العهود والمواثيق أن يمتثلوا لما يحكم به، ثم جمع الناس وبايع عثمان فبايعه الناس.

وعلى ذلك فإن الأمر كان ترشيحًا من أهله، تبعته مبايعة وفقًا للمتاح من وسائل التعبير عنها وأدواته في ذلك الزمان.

وكان الخليفة يعاهد الناس بعد مبايعته على ما يلتزمه في سنته فيهم، وقد أُثر عن أبى بكر الصديق أنه قال بعد مبايعته:« فأعينوني على ذلك بخير، وأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ».

وعلى مثل ذلك بدأ عمر بن الخطاب ولايته، وقال::« لكم علىّ ألا أجتنى شيئًا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علىّ إذا وقع في يدى ألا يخرج منى إلاّ في حقه، ولكم علىّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله، وأسد ثغوركم، ولكم علىّ ألاّ ألقيكم في المهالك ولا أجمركم ـ أي أحبسكم ـ في ثغوركم، وإذا غبتم في البعـوث فأنـا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عنى، وأعينوني على نفسى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ».

طفق الأستاذ العقاد يبدى في كتابه عن الديمقراطية في الإسلام ــ يبدى أن الأهم من الشورى في اختيار ومبايعة الخليفة فرض الشورى عليه في ولاية أمر الرعية، وليست وسيلة الشورى بعد ذلك إلا مسألة تطبيق وتنفيذ، سواء كانت وسيلتها نظامًا من نظم الانتخابات أو مراجعة بالطريقة التي اختارها عبد الرحمن بن عوف لاستشارة ذوي الرأي وسؤال العامة، حيث تتيسر الاستشارة والسؤال في الموعد والمكان.

وقد عرفت لكل خليفة طريقة في الاستشارة والمراجعة، وأمثلها في رأي الأستاذ العقاد طريقة الفاروق الذي خلقه الله ليقيم الدول ويبنى قواعد النظام، فإنه رضى الله عنه كان لا يقصر مشورته على كبار الشيوخ وأئمة القوم، بل يلتمس الرأي من الشبان أحيانًا « فكان إذا أعياه الأمر المعضل دعاهم فاستشارهم لحدة عقولهم ».

وكان أسلوبه إذا أراد أن يختار واليًا أن يذكر الشرط ويترك للسامعين الاختيار، وسأله أصحابه مرة: ما شرطك في الوالي الذي تريده ؟ قال: « إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم ».

والشورى التي أمر بها الإسلام لم تكن مسألة شكل ولا عدد، وإنما مسألة جوهر أن يستشير الحاكم استشارة حقيقية من يأنس أن لديه أو لديهم رأيًا يُقال أو مشورة تُسمع، فليست كثرة عدد من يشيرون هي مناط الصواب في الشورى الإسلامية، والقرآن الحكيم صريح في إبطال العدد للعدد، أو الأكثرية لمجرد كونها أكثرية، فقد يأتي الغلط منهم. وعما يمكن أن يشوب الأكثرية، ورد بالقرآن:

« وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا » ( يوسف 36 )

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ » ( الزخرف 78 )

« وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ » ( الأنعام 111 )

« وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ » ( الأعراف 102 ).

« وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ » ( الأنعام 116 ).

ولم تغب هذه الحقيقة التي نبه إليها القرآن الحكيم ـ لم تغب عن كبار المصلحين في الإسلام، ومنهم جمال الدين الأفغاني الذي يعد أسبق الدعاة إلى الشورى « البرلمانية » مع علمه بما فيها من عيوب.

ويرى الأستاذ العقاد أن رأي جمال الدين في مسألة الكثرة والقلة، لم يكن مخالفًا لرأي كبار العلماء في صدر الإسلام، فقد كانوا يحذرون الجهلاء والغوغاء، وكان عبد الله بن عباس يقول إنهم ما اجتمعوا إلاَّ ضروا وما تفرقوا إلاَّ نفعوا.

فليس المعوّل عليه في الشورى كثرة الجهلاء، أو طبقة من الطبقات الممتازة بالمال أو بالعلم أو بالسلاح، ولكن المعوّل عليه تعاون الأمة بجميع طبقاتها وآحادها كما تتعاون الوظائف الحيوية في البنية الحيّة.

وعلى ذلك فإن ديمقراطية الأمة السياسية، ديمقراطية حياة لا ديمقراطية حساب، ومتى تبينت هذه الحقيقة تبينت حكمة الإسلام في الشورى وقواعدها، وقوامها أن الشورى مأمور بها، وأن المطلوب فيمن يشير أن يكون ممن يعلمون، والقرآن المجيد يقول: « فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأنبياء 7 ).

ويحسب للإسلام فيما اعتذر أنه كان الأسبق للاعتناق إلى أهمية الديمقراطية الاقتصادية، وهي ركن ركين في الديمقراطية السياسة، فلا ديمقراطية يمكن أن تتحقق إذا كان الإنسان لا يملك قوت يومه.

يشير الأستاذ العقاد في البداية إلى قول غلاة الشيوعيين أن الديمقراطية مستحيلة مع بقاء الفوارق بين الناس في شئون المال والأرزاق.

وحقيقة الأمر أن الفوارق بين الناس متعددة لا تنحصر فقط في الثروة أو الرزق، ومنها فوارق طبيعية ملازمة للخلقة، ولا يخلو الناس منها. وأما فوارق المال فهي تذهب وتجيء وتتقلب بين الناس من زمن إلى آخر، وهي ليست وحدها مانعة من الديمقراطية.

وقد ثبت من التجارب قديمًا وحديثًا، أن التفاوت قد يكون علاقة حسنة وليس بالعلاقة الرديئة التي يطرد السعي للتخلص منها.

زر الذهاب إلى الأعلى