الأخلاق فى الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 17/2/2022
ــــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
    منظومة الأخلاق فى الإسلام ، معلم رئيسى من معالم عالميته ، وعنايته بالمسلمين ، وبغير المسلمين .. فالله تعالى رب العالمين : فلم يتجاهل الإسلام غير المسلمين ، وإنما امتدت منظومة أخلاقه لتشملهم كما تشمل المسلمين ، وبرز في هذه المنظومة الأخلاقية عناية لافته بالأغيار .
    ومن يتأمل منظومة الأخلاق والشمائل والسجايا الإسلامية ، يرى بوضوح أنه فضلاً عن عنايتها بأن يتخلَّق المسلم بهذه الأخلاق ، فإنها راعت الأغيار رعاية تجلت فيما شملته من المناقب والشمائل والأخلاق .
    فالصدق سجيّة يتحلى بها صاحبها ويثاب عليها ، ومرام الصدق يتجه إلى سداد القول وأمانة الشهادة وسلامة النيّة ، وكل ذلك يرعى الآخر كما يرعى المسلم ــ فالمسلم مأمور بالصدق فى الشهادة ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين ، فالشهادة لله ـ لا تميل ولا تحيد ولا تُكتم ، أيًّا كان المستفيد منه . يقــول القرآن الكريـم : « وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ » (الطلاق 2).
والأمانة .. ابتداءً وانتهاءً , تستهدف حقوق الغير ، والوفاء بها .. والأمانة ورعاية العهد من صفات المؤمنين ، وبها وصفوا فى القرآن الكريم :« وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ » ( المؤمنون 8 ) ، والأمانة تؤدى إلى من ائتمن ، والعهد يرعى من أعطى العهد .
    وتستطيع أن تلمس هذا الجانب فى كل السجايا والشمائل والأخلاق الإسلامية ، تراه فى الوفاء بالكيل والميزان وعدم التطفيف فيه ، أو بخس الناس أشيائهم . وتراه فى العدل ، فهو لا يستبعد من باحته الشانئ ,ولا يجامل الذات أو الأقربين . ففى القرآن المجيد : « وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ » ( الأنعام 152 ) , وفيه : « وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ » ( المائدة 8 ) ، والقسط واجب ولو على النفس أو الوالدين والأقربين : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ » ( المائدة 135 ) .
وهذا هو حال كل الأخلاق فى الإسلام .
    ونرى الأستاذ العقاد يتناول الأخلاق فى الإسلام من زاوية أخرى ، متسائلاً : هل هى أخلاق قوة ؟ أو أخلاق محبة ؟ أو هى أخلاق قصد واعتدال ؟ وهل هى أخلاق اجتماعية ؟ وهل هى أخلاق إنسانية ؟
    ويجيب عن أخلاق القوة بأنها كذلك أحيانًا , ولكنها ليست كذلك فى جميع الأحيان , لأن أخلاق القوة قد تفهم على وجوه متعددة , أو متناقضة , يحمد الإسلام بعضها ولا يحمد بعضها .
    وقد توصف الأخلاق بأنها « أخلاق محبة » , لأن أصول العلاقات بين الناس قائمة فى الإسلام على شرعة المحبة والأخوة كأن الجميع من أسرة واحدة , ولكن الإسلام ينكر على المسلم أن يحب الخبيث كما يحب الطيب , ويعرف العداوة من أجل الحق كما يعرف الصداقة فيه .
    كما أن قوام الأخلاق كله ـ ليس فى التوسط أو فى القصد والاعتدال على مذهب الفلسفة اليونانية أو فلسفة أرسطو على وجه الخصوص .
أخلاق القوة
اقترن هذا التعبير باسم « فردريك نيتشه » رسول السوبر مان .
والسوبر مان عنده لا يرحم ولا يغفر ولا يعرف للضعيف نصيبًا من « الإنسان الأعلى » غير نصيب الزراية والإذلال .
والأخلاق عنده قسمان : قسم للسادة لا يقبله للعبيد , وقسم للعبيد لا يقبله السادة .
وقد عرفت أخلاق القوة قبل نيتشه بتفسير يجعل القوة مرادفة للاستحسان .
والناس على زعم نيتشه ومثله الفيلسوف هوبز , يحمدون الرحمة لأنهم يحمدون القوة . ويحمدون العفو لأن الذى يعفو يعفو بقوته . ويحمدون الكرم لأنه عطاء . ويحمدون الدهاء لأنه قوة فى العقل يتمكن صاحبها من تسخير سواه , ويحمدون الذكاء والحذق والمعرفة والبراعة لأنها من علامات القوة . أما العظمة والمجد والشجاعة فلا حاجة بها إلى تفسير انتمائها للقوة .
وهذه الفضائل أو المزايا ـ فى نظرهم ـ تفيد أصحابها قوة كما تنم فيهم عن القوة ..
وقالوا إن الشجاعة وسط بين التهور والجبن , وأن الكرم وسط بين الإسراف والبخل , والصبر وسط بين الجمود والجزع , والحلم وسط بين النزق والبلادة , والرحمة وسط بين القسوة والخور .. وهكذا كل فضيلة : وسط بين غايتين .
مناط القول , أن الإسلام لا يحمد من الأخلاق ـ أن تكون حيلة إلى طلب القوة , بل يحمد فيها أن تكون وسيلة إلى « طلب الكمال » .
ومذهب الاعتدال ، هو قوام فهم الأخلاق المحمودة فى الإسلام .
مقياس الأخلاق والآداب
مجمل الرأى أن المجتمع يقاس بالدين وليس الدين يقاس بالمجتمع .
ولا بد من الفضائل الإلهية فى تعليم الإنسان مكارم الأخلاق , والواقع أن الإنسان لم يكتسب أفضل أخلاقه إلاّ من الإيمان بمصدر سماوى يعلو على طبيعته الأرضية .
وهذا هو المقياس الأرقى لمكارم الأخلاق فى الإسلام ..
ليس المقياس أنها أخلاق قوة , أو أنها أوساط بين أطراف , أو لأنها ترجمان لمنفعة المجتمع أو منفعة النوع الإنسانى .
وإنما مقياس أنها أخلاق كاملة , وأن الكمال اقتراب من الله ..
ولله المثل الأعلى ..
وكل صفة من صفات الله الحسنى محفوظة فى القرآن الكريم , يترسمها المسلم ليبلغ فيها غاية المستطاع فى طاقة المخلوق ..
إن الدين الإسلامى بجملته وعقائده وآدابه , يستحب القوة للمسلم , ولكنها ليست القوة المتجبرة , وإنما التى تعطف على الضعيف وتحسن إلى المسكين واليتيم .. وليست القوة التى تصان بالجبروت والخيلاء .
« إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ » ( لقمان 18 ) .
« فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » ( النحل 29 ) .
« أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ » ( الزمر 60 ) .
ولا يستحب الإسلام القوة للقوى إلا ليدفع بها عدوان الأقوياء على المستضعفين العاجزين عن دفع العدوان :
« وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ » ( النساء 75 ) .
ولم يوصف الله بالكبرياء فى مقام الوعيد للكبرياء بالنكال والإذلال , إلا ليذكر المتكبر الجبار أن الله أقدر منه على التكبر والجبروت .
والإسلام يزكى مذهب التوسط فيما يقبل التوسط بالمقادير أو بالدرجات كالإنفاق الذى ينتهى الإسراف فيه إلى اللوم والحسرة :
« وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا » ( الإسراء 29 ) .
« وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا » ( الفرقان 67 ) .
« وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » ( الأعراف 31 ) .
* * *
ولكن القسطاس فى فضائل الإسلام لا يرجع فقط إلى المقدار والتوسط فيه , بل يرجع أيضًا إلى الواجب وما يقتضيه لكل أمر من الأمور , فإذا وجب بذل المال كله وبذل الحياة معه فى سبيل الحق فلا هوادة ولا توسط هنا بين طرفين , وإنما هو واجب واحد يحمد من المرء أن يذهب فيه إلى أقصاه ..
الأسماء الحسنى
الإنسان مأمور أن ينظر فى صفات الله الحسنى كما تجلت فى أسمائه , فهى قبلته التى يهتدى بها إلى مكارم الأخلاق بما فى وسعه . وهذه الأخلاق كثيرة وافية بخير ما يتحرّاه الإنسان فى مراتب الكمال .
ومن أدب الإسلام أنه يقدم للمجتمع الإنسان الاجتماعى الكامل فى أقوى صورة من الخلق والأدب والسلوك .
وإذا ما وفّى المسلم بأمانة الشكر وعرفان الجميل , فلا ينسى أنه مدين لهذا الدين الحنيف بوجوده الروحى ووجوده المادى فى حاضره الذى وصل إليه بعد عهود شتى من المحن والبلاء . ولولا هذه العروة الوثقى التى اعتصم بها لضاع بوجوده الروحى ووجوده المادى فى غمار يمحوه ولا يبقى له على معالم بقاء .
ومن حق هذا الدين عليه أنه يسلمه إلى الدنيا « قوة » يعتصم بها العالم فى مستقبله بين الأعاصير التى ابتليت بها الإنسانية .
من أمانة الدين , الإيمان بإرادة الله كما تتجلى لخلقه يؤديها كل من عرفها بمقدار ما عرفه منها , ويذكر معها نعمة الرسالة الإلهية التى افتُتحت بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » وتختتم بحمد لله رب العالمين .
زر الذهاب إلى الأعلى