إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (1)

من تراب الطريق (1058)

إرادة وفكر الآدمي بين الجمود والتطور (1)

نشر بجريدة المال الخميس 11/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مراحل حياة أي آدمي لا أول ولا آخر لها في إراداته التي يتوالى تتابعها وتغايرها ـ منه وبه وعنه وإليه وإلى سواه.. ذاتًا أو شيئًا هبط أو علا.. وذلك بغير نظر إلى مصدرها الذي ابتدعه أو استقاه قصدًا أو عفواً أو اتباعًا وتقليدًا مما أو ممن أو من أي مصدر في دنيانا مدة وجودنا بها.. طالت أو قصرت.

وإرادات الآدمي كائنًا من كان.. دائمًا أبعد أو أقرب من قدراته التنفيذية.. لأنها دائمًا غير تامة الوضوح لمراده.. إذ هي اندفاعات مصوغة مصوبة دائمًا إلى قصد لم يوجد بعد.. يحتاج إيجادها الفعلي إلى تنفيذ محدد يزيد أو ينقص عن صورة الإرادة الأولى.. والغالب الأغلب من الإرادات المعتادة لدى البشر ـ لا يحفل بالفارق الموجود بين المراد والتنفيذ لضآلته في نظر المريد الذي تحقق له في عمومه ما أراد، أو رضا بالذي تم تنفيذه فعلا من مشروعه.. إذ عادة البشر ـ فيما عدا من ندر ـ تقبل ما تم نفاذه بديلاً لما كان قد تمناه قبل التنفيذ.. لأن التمسك بالدقة والتدقيق دائمًا أو غالبًا.. لم يسد قط لدى الآدميين حتى يومنا هذا.. هم مازالوا سطحيين برغم نمو عقولهم في أكثر من جهة !

وسطحية البشر أبعد وأعمق ما في ماضيهم الذي يرجع إلى آلاف عديدة من السنين طبقًا لتصورنا الآن بعد أن كان تصورنا له محدودًا جدًّا حتى القرن السابع عشر الميلادي.. فسطحيتنا الآن قد تطورت تطورًا شديدًا عما كانت في ماضيها الذي يبدو الآن غير قصير دون أن تتطور تطورًا هامًا في الأعماق.. أعنى أعماق الآدميين عامتهم وخاصتهم.. متحضرهم وغير المتحضر.. كبيرًا كان أو صغيرًا ذكرًا أو أنثى.. فقد تجمدت أعماق الآدميين أو تكاد ـ خلال القرون الثلاثة الميلادية الأخيرة.. وانصرفت الناس بقضها وقضيضها ـ إلى العالم الموجودين فيه من الميلاد إلى النهاية، وتحولت أعماق الآدمي ـ إلى مجرد مظاهر متعددة أو ساذجة منصرفة غالبًا إلى آليات واصطلاحات وتلاوات وطقوس وشبه عبادات ومواسم وأعياد وأحيانًا زيجات وتعميدات أغلبها الغالب تعصب عنصري أو قومي أو فرقى أو طائفي انتهت حماسته وقناعته من قرون طويلة.. يجتهد المتيّمون بهذه المسمّيات للآن والغد ـ للإبقاء على مظاهر وجودها ـ لضمان قدر من المقام أو القدرة الشخصية أو ضمان العيش ما أمكن ذلك !

وانطلاقات الحضارة الحديثة في القرون الثلاثة الأخيرة، كانت جميعها تقريبًا دنيوية صرفًا.. لا دخل لها جديًّا في هذا الدين أو ذاك، ولا صلة لها بالملل والنحل من قريب أو بعيد.. ولم يسع قط رجال الأديان ـ إلا في نادر النادر ـ إلى الاندماج الجدي في النشاط الدنيوي الذي اتسع وامتد وساد في العالم كله وبات وحده اليوم الأساس الفعلي الذي لا ينازعه منازع جدي غيره.. ديني أو دنيوي آخر.. وباتت الديانات الكبرى وغير الكبرى المعروفة مع كثرة أتباعها شكلاً وصورة ـ باتت هامشية سطحية المقام والنفوذ.. قلمَّا يذكرها أتباعها في غير عزاء أو عرس.. إذ أدى الجمود على القديم إلى بقائه وثباته في قدمه كما أثبته السابقون وأرسوه من مئات السنين، بينما البشرية في تحرك دائم وانتقال وتعديل وتغير في الطباع والعواطف والعقول خلال انتقال وتعديل وتغير الأزمنة والأمكنة.. ومن العجيب أن المتجمدين على القديم سواء في عصرنا أو فيما سبق من العصور ـ عاشوا ويعيشون جميعًا حياة عصر كل منهم ثم في عصر من بعدهم، لكنهم إن ارتطموا بقواعد ومبادئ الملة يسرعون في التراجع إلى القديم المتبع المعول عليه في نظر الملة لا في نظر العصر الذي يعيشون فيه !!. فهم في واقعهم المفتعل هذا خادعون مخدوعون.. لأنفسهم ولأتباعهم.. ولا يتحركون حقيقة قط بل يحاولون عبثًا التمسك بالماضي الذي كان وانقضى من عشرات مئات السنين !

إن ما تحدث به الأنبياء عن قرب مجيء الآخرة، أو عن زوال الدنيا ـ ليس دعوة للموت أو الجمود، وإنما تقريب وتوكيد وتحقيق لرسالاتهم الشريفة لمن كان حول كل منهم من التابعين، وأولئك الكبار بشر، سمت بشرية كل منهم إلى حدودها العالية دون أن تتجاوزها.. وذلك بحساب وتقدير الحكيم العليم جل شأنه.. أولئك العظام شديدو الإخلاص والتصديق والإيمان به سبحانه وتعالى.. محصورون في آدميتهم وعمر كل منهم وزمنه الذي لا يتخطاه ولا يدري مستقبل أهله في آتى زمنه وموقعه وتغيراته وتطوراته.. هذه التطورات المتغيرة التي لا يحيط بها أصلا وفصلا إلا العلى العظيم خالقها بداية ونهاية.. لأن عصور الأنبياء الكبار في أوقاتها بدايات مأمولة النمو والزيادة والتقدم باستمرار في كامل عصورها وأزمنتها وأمكنتها.. إذ لم ينعقد عالم الأزمنة والأمكنة في الكون العظيم بقدرات أعلام الأنبياء ـ ولا بآمالهم وآلامهم.. لأنهم إلى أن فارقوا الدنيا ـ عبيد الخالق جل شأنه.. لا يعصون الله ما أمرهم ولم يعصوه.. وما جاء على ألسنة كل منهم في شأنه ـ عز وجل ـ قليلاً كان أو كثيرًا ـ لم يجاوز قط قدرة كل منهم كآدمي مؤمن صادق الإيمان إلى أقصى حدوده ـ تعبيرًا منه هو عن رسالته المجيدة إلى أهل زمانه..

زر الذهاب إلى الأعلى