أَنْساقُ لُغة القانون التَّعاقُديَّة (2)

 

“واقع نسقيَّة ُاللغة القانونية التعاقديَّة في العالم العربي ”

بقلم: الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

لا زلنا نتابع أنساق لغة القانون التعاقدية أو نسقية “اللغة القانونية التعاقدية”، وهي كما علمنا أنساق تضرب بأصولها إلى اللغة العربية الفصيحة من حيث مفرداتها وتراكيبها …. إذ إنها تستمد منها مباشرة بعد استمدادها لخصائص وسمات اللغة القانونية، فلغة القانون بمعناها الواسع تشمل خمس لغات هي :

اللغة الأولى: لغة النص القانوني” لغة نص القانون”

اللغة الثانية: لغة فقه القانون ” لغة الشرح أو شراح القانون ”

اللغة الثالثة: لغة القضاء ، وقد تسمى بــ”لغة الحكم ”

اللغة الرابعة : لغة الدَّفع والدِّفاع .

اللغة الخامسة : لغة الخطاب القانوني .

وهذا ما يصعب الأمور على القانونيين وعلى المعنيين منهم بـ”اللغة التعاقدية” .

*سؤال …

ولماذا يصعب على القانونيين استمداد هذه الأنساق من دواوين اللغة ومراجعها ومصادرها وسائر أوعيتها المعرفية المعتبرة ؟

الجواب ….

بدهي أنه وإن افترض في القانونيين أن يلموا بمعارف ومهارات اللغة العربية الفصحى، فهم غير متخصصين فيها وغير واقفين على جميع مهاراتها وأساليبها …وهذا مما يصعب عليهم مهمة تكوين الأنساق سليقيا أو استمدادها مباشرة من المراجع والمدونات العربية …!!!

فما الحل ؟

الحل المطروح للوهلة الأولى أن

1-يرجع القانونيون إلى مكتبتهم اللغوية القانونية ليستخرجوا منها ما يشاءون من أنساق ونماذج تساعدهم على الصياغة واختيار ما يشاءون من الأنساق اللغوية القانونية المناسبة لموضوع عقدهم وغايته …!!!

2- أو يرجعوا إلى الجهات المختصة بلغة القانون ، والمفترض أنها  المكاتب الفنية ولجان الفكر القانوني ولغته في الهيئات والجهات القضائية أو في أندية القضاة ، أو في المكاتب الفنية للمحاكم ، أو في نقابة المحامين ، أو في أيٍّ من المراكز القومية المعنية ، أو في  المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مثلا ….!!!

ما سبق كلام جيد وجميل (ومنمق …!!) وهو الكلام المنطقي في أي وسط يحترم لغته القانونية …!!

ولكن بتفحص هذا الكلام وبالإمعان فيه والتأمل له ….سنقف على الآتي :

أولا : أن المحامين في معظم الدول العربية لا علاقة لهم باللغة العربية …!!!! فهي لا تدرس لهم ولا يعتد بها مادة رسمية ولا شبه رسمية .

فعلى رغم ضرورة دراستها ووجوب مراعاة الدواعي القانونية التي توجب تدريسها للقانونين وهي تلك الناشئة مباشرة عن نص الدستور 2014م مادة (2) :” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية”. وكذلك نصَّ عليها قانون السلطة القضائية المادة (19)”لغة المحاكم هي اللغة العربية”

ومِن ثمَّ أسَّست محكمة النقض وضعية تلك اللغة الشريفة بقولها -بعد إيرادها للنص السابق – بأنه :” يدل على أن المشرع عًدَّ اللغةَ العربيةَ من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التي ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها”.

[الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]

تناقض.! ومفارقة..!

ومن الغريب العجيب أن تلك المكانة السامقة للغة القانون الشريفة لم تترجم في واقع كليات القانون ولا في مؤسساته إلا بالنَّذْرِ اليسير العارض الذي لا يكادُ يذكر … فلغة القانون لا تُدرس في كليات القانون باعتبارها مادة أساسية أو مقررا فرعيا أو حتى كمقرر اختياري ..!!! وعلى رغم تدريس القانون بلغات أخرى فرنسية وإنجليزية وغيرهما …!!!

 

ثانيا: تقول الأطروحة السابقة أيضا “الحل المطروح للوهلة الأولى أن يرجع القانونيون إلى مكتبتهم اللغوية القانونية المنتشرة في ربوع الجهات والمؤسسات القضائية أو النقابة العامة للمحامين والنقابات الفرعية …!!! ليستخرجوا منها ما يشاءون من أنساق ونماذج تساعدهم على الصياغة واختيار ما يشاءون من الأنساق اللغوية القانونية المناسبة لموضوع عقدهم …!!! ”

والرد على ذلك أنه :

حتى الآن لا يوجد في المكتبة العربية في ربوع عالمنا العربي أجمع إلا بضعة كتب ( نعم بضعة كتب لم تصل إلى الآحاد فضلا عن العشرات أو المئين بعد في لغة القانون….!!!! )….نعم والله …!!!

ومكتبات الجهات والمؤسسات القانونية ومكتبات نقابة المحامين الرئيسة والفرعية … لا تعرف هذا الفن من العلوم ولا هذا الصنف من المؤلفات …!!!!!

وإنه لمن المفاجع والفواجع، حيث ثبت من خلال البحث الدءوب والتساؤل المتواصل وتقليب المواقع على الشبكة الدولية ومراجعة الدوريات القانونية أنه لا يوجد كيان في العالم العربي أجمع يقوم على رعاية لغة القانون وتعزيزها ونشر ثقافتها وحمايتها ، بل عند البحث عن مصطلح لغة القانون لا تكاد تجد إلا بضعة مفردات فحسب على الشبكة الدولية على رغم جلالة المصطلح وقوته .

اللهم إلا دراستين يتيمتين للدرعمي الكبير الدكتور سعيد حسن بيومي حيث رسالته للماجستير بعنوان لغة الحكم ورسالته للدكتوراه بعنوان لغة القانون وتكادا تمثلان مكتبة لغة القانون في الوطن العربي أجمع – على حد ما وصل إليه علمي – وهاتان الدراستان من الجهود النوعية المشكورة لمعالي الدكتور سعيد بيومي، وقد قدم لها العالمان الجليلان الأستاذ الدكتور أمين المهدي والأستاذ الدكتور محمد سليم العوا ….

 

ثالثا: لا توجد جهة مطلقا …..مطلقا …..مطلقا….!!! في العالم العربي عامة أو خاصة تعنى بلغة القانون وتتوافر عليها وتتابع واقعها الدراسي أو واقعها القانوني أو حتى تعنى برعاية لغة القانون وتعزيز ثقافتها ونشرها

وهو يعني أن مؤسسة عظيمة عريقة مثل نقابة المحامين المصرية كان يتحتم عليها منذ تأسيسها أن تنهض بتأسيس هذا الاتحاد وذلك المنتدى ، ولمَ لا ، والمحامون هم فرسان الكلمة وأهلوها ، فأداة عملهم الرئيس هي الكلمة ووسيلتهم هي الكلمة -وليس غير الكلمة- في جميع أعمالهم الشفاهية والكتابية لأداء رسالتهم النبيلة في نصر القانون ورفعه وتعزيز جناب العدالة مع شركائهم من السلطة القضائية .

وكذلك نادي القضاة تلك المؤسسة العريقة السامقة منتدى قضاة مصر العظام حاملي لواء العدالة، فضلا عن المجلس الأعلى للقضاء والمحاكم العليا في الجمهورية ، محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا ، والمحكمة الدستورية العليا … كان يتحتم عليهم أدبيا – ولست أُبعد النُّجْعة لو قلت إنه التزام قانوني عليها – تأسيس هذا الاتحاد ، أو تلك الرابطة أو ذلكم المنتدى ..!!!

ولو حتى بتأسيس ما يماثله في وظيفته … من خلال وحدة صغيرة ، تقوم ببعض الأدوار في الاهتمام بتلك اللغة القانونية الشريفة ورعايتها ونشر ثقافتها وتعزيز بنيانها وحمايتها من السقوط والإهمال أو الاعتداء عليها وانتهاك سَنَنها وقواعدها وأصولها القانونية العربية المتينة..!!مع العلم أن لكل محكمة مكتبها الفني الذي يتوافر عليه كثير من أساتذة علوم اللغة وقواعدها ….!!!

إن هذا والله لنبا عظيم وخطب جسيم ….!!!!

أيكون هذا مصير لغة القانون ؟!!

أيكون ذلك مآل نصوص الدستور والقانون الصريحة الوضيحة على أهمية وعظمة هذه اللغة ؟؟؟!!!

أتكون هذه عاقبة ومثوى العاملين في مجال القانون ومؤسسات العدالة ما يقارب من مليون قانوني وعامل في المجال القانوني في مصر – وهم من يحدد مصير حقوق وحريات الوطن كافة من خلال لغة القانون ونصوصه – بلا مؤسسة أو جمعية أو اتحاد …يعزز لغتهم القانونية ويشجع عليها ويحميها ويوفر أدبياتها وأوعيتها المعرفية .

ولعل ما سبق هو ما دعى بنا إلى تأسيس “اتحاد لغة القانون ” … ليقوم بهذا الدور المفقود …هذا الدور الواجب إزاء لغة القانون إضافة إلى الأهداف المبثوثة في ثنايا وثيقة تأسيس الاتحاد، ضمن أهدافه العامة الأخرى وهي على النحو التالي :

الهدف الأول : الاستجابة لنص الدستور ونصوص القانون في الحفاظ على لغة القانون كإحدى “مقومات الدولة القانونية”

الهدف الثاني: تعزيز لغة القانون والقيام عليها ، ونشر ثقافتها ومعارفها وتوفير مصادرها وأوعيتها المعرفية….

الهدف الثالث : التصدي لظاهرة تدني المستوى اللغوي القانوني وما يتبع ذلك من ظواهر لا تليق ( أخطأ صياغة – أخطاء في الحديث) إثارة التعليقات الساخرة ، تدني النظرة الاجتماعية …!!!! بما يضعف من الثقة في مؤسسة العدالة ، وبما يجرئ المرجفين المتربصين بالوطن على تقويض استقراره ومقوماته .

الهدف الرابع: حماية لغة القانون ودعمها في مواجهة التحديات والعوائق التي تحول دون تنميتها وتطورها والإقبال عليها من قبل جموع القانونيين المعنيين بتحقيق العدالة وتطبيقها وبسطها، ولدى سائر القانونيين العاملين في المجال القانوني والمعنيين يه في عموم مؤسسات القانون والعدلة في الوطن .وفي هذا السبيل فقد خصصنا حدة مستقلة في الاتحاد لدراسة هذه التحديات ومواجهة تلك المعوقات وهي وحدة لغوية قانونية تربوية(تجمع ما بين القانونيين المهتمين باللغة وما بين اللغويين المتخصصين والتربويين والاجتماعيين ) لمناقشة لغة القانون وتحدياتها …

ثم يأتي الهدف الخامس للاتحاد وهو تقديم حلول للغة القانونية بمعناها العام ، من حيث أنواعها وفنونها وسائر جنباتها ، ومن أهم هذه الأدوار القيام بتقديم “أنساق ونماذج اللغة القانونية “.

وأعود فأذكر بما سبق إيراده في المقالة الأولى المكثفة أنه وبعد بحث مطول وفحص متطاول في النصوص القانونية وفي أحكام المحاكم وخاصة محاكم النقض والإدارية العليا والدستورية ، وفي بعض الأحكام الكبرى ذات الصيت المنتشر في المحاكم المدنية والجنائية …. إضافة إلى البحث والتنقيب في مدونات القانون ومصادره ومراجعه ودورياته … أمكن لنا الوقوف على عدة أنساق لغوية قانونية .

وهي تمثل – من وجهة نظرنا – الأنماط اللغوية القانونية العامة والأساسية، والتي يمكن من خلالها تحقيق حلم راود الكثيرين من القانونيين واللغويين المعنيين بلغة القانون وصياغاته اللغوية العامة والخاصة بضبط لغة القانون والسيطرة عليها من خلال منهجية معيارية موضوعية مضطردة .

قائمة على أساس علمي وعلى استقراء منهجي، ويمكن من خلالها:

1-وضع أنساق ثابتة ونماذج موحدة للغة ” نص القانون” جامعة لمضامين ومقاصد المشرع وقواعد النظام اللغوي، مانعة للتزيد والاحتمال، وهو ما يخدم السادة المشرعين خاصة…ثم يخدم سائر القانونيين حتى المتقاضين …. على نحو ما سيأتي تفصيلا .

2-وضع أنساق ونماذج متقاربة شبه ثابتة للغة الحكم القانوني، محيطة بالمضمون القانوني ومراعية للنظامين اللغويين البنائي والدلالي …. بما يحفظ هيبة لغة الحكم وجلالة لغة التقاضي .

3-وضع أنساق ونماذج موحدة أو متقاربة مرنة للغة المرافعة، والمذكرات القانونية وغير ذلك من الأدوات المعينة على تحقيق الدفاع على الوجه الأكمل … والتي يعنى بها السادة المحامون .

4- وضع أنساق ونماذج موحدة أو متقاربة مرنة للغة شرح القانون وتفسيره ، والتي يعنى بها السادة فقهاء القانون وشراحه .

5- وضع أنساق ونماذج متقاربة ومرنة للغة الخطاب القانوني ، بما يضمن للسلطة العامة ضبط النظام المجتمعي وحماية السكينة والأمن العاميين … وتدارك الثائرات النفسية المجتمعية ووأد وتقويض الخطاب الإرهابي ….

6- وضع نموذج جامع ، ونسق موحد أو شبه موحد ومتقارب للعقود القانونية ، وإن شئت فقل وضع نظام “للغة القانونية التعاقدية” وتلك غايات الغايات ، وهدف البحث الرئيس ، فالعقود هي المصدر الأول الالتزام ، وهي أوسع أبوابه ، وهي عقود مسماة وغير مسماة ، وهي ذات صيغ تقليدية وحداثية ومستحدثة …. وهي من أكثر الصيغ القانون انتشارا واتساعا ما بين الأفراد والمؤسسات والأشخاص الطبيعية والاعتبارية والأشخاص الدولية

وهو بإذن ما ستفصل فيه تباعا في تلك السلسلة من المقالات .

 

زر الذهاب إلى الأعلى