أهم (100) قاعدة وضابط في “فن التفسير القانوني” [9]

بقلم الدكتور : محمد عبد الكريم أحمد الحسيني – أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.

 

ليسَ يَخْفى على غيْرِ المتخصِّصين فضْلًا عن المتخصصين أنَّ: “مُتشابهاتِ النُّصوصِ بعامَّة والنًّصوص الشرعيَّة والقانونية ومتناظراتها -بخاصةٍ- يَلْتئِم بعضُها مع بعضٍ بالضَّرورة” وأن “مُترابطات النًّصوص [سواءً الشرعية أو القانونية كُلًا على حِدَة] يتكاملُ يعضها مع بعْض بالضَّرورة“، ولا يمكنُ فهمَ بعضها دون البعض الآخر، ولا ينهضُ تفسير جزء منها إلا في ضوء تفسير مجموعها، ولا يمكن استنباط حكم منها إلا في ضوء مجموعها، كُلُّ هذا يقومُ بالضرورة في عموم النصوص والوثائق والمدوَّنات، فضلًا عن النصوص الشرعيَّة وتلك التقنينات الوضعية.

ولتوضيح ذلك دعونا نتفقُ على أن النصوصَ الشرعيَّةَ أو القانونيَّةَ تتكونُ بالضرورة من: مجموعةٍ من الأحكامِ لغرضِ تَنْظيمِ بَعضِ الوقائعِ وحمايةِ الحقوق والمراكز المتعلقةِ بها، وللحفاظِ على النِّظام العام للمجتمع.

ثم إن هذه الأحكام –بمعانيها ومتعلقاتها- تنقسم بالضرورة إلى الآتي :

أولا: أحكام تتشابه في الموضوع دون الوسائل والغايات .

ويأتي هذا التشابه على ضربين :

أ-تشابه تماثلي (التماثل في الموضوعات)

فجرائم الشرف مثلا تقتضي عقوبات جنائية حال ثبوتها وتنظمها النصوص الجنائية ، وهي من الناحية الإدارية تقتضي تأديبا وأحيانا الفصل من الوظيفة بحسب اللوائح والنظم، فهنا تشابهت الموضوعات واختلفت الوسائل والغايات، فهي على المستوى الجنائي تطبق النصوص لتحمي المجتمع ، وعلى المستوى الإداري تطبق اللوائح وتحافظ على مركز الوظيفة العامة وما تديره من مرافق.

ب-تشابه في بعض الجوانب دون بعضها الآخر

وهو ما يمكن تسميته بالتشابه الجزئي، مثل جريمة الاختلاس والنصب، وغيرها من الجرائم.

 

ثانيا: أحكام تتشابه في الوسائل والغايات دون التشابه في الموضوعات.

ويمكنُ النظر إلى كافَّة الأحكام الشرعية وإلى كافة التقنينات الوضعية أيضا من هذا المنظور، فجميعها تتغيا تنظيم سلوكيات الأفراد في المجتمع وحماية الحقوق والمراكز وبسط سلطان العدالة .

نخلص من المقدمة السابقة إلى مبدأ مركب جامع قوامه:

(تتلاقى النُّصوصُ بالضرورةِ وتتشابه أحكامُها، ولا يُتصوَّرُ تناقضها وتخالفها بما يستحيلُ الجمعَ بينها).

ويمكن لنا حل هذا المبدأ إلى مبدأين مفردين:

 

المبدأ الأول المفرد [ مبدأ التشابه والتلاقي بالضرورة]:

(تتشابه النصوصُ بالضرورة وتتلاقى أحكامُها في موضوعاتها ووسائِلها وفي غايتِها) .

 

المبدأ الثاني[ مبدأ استحالة التناقض والتعاكس بين النصوص]

 (تسقطُ النصوصُ بالضرورةِ حالَ تناقضِ أحكامها وتخالُف قواعدِها بما يعني استحالةَ الجمعِ بينها)

 

وعن هذين المبدأين تصدر القواعد الآتية :

قواعد المبدأ الأول: [مبدأ التشابه والتلاقي بالضرورة]: تتشابه النصوص بالضرورة وتتلاقى أحكامها في موضوعاتها ووسائلها وفي غايتها.

 

القاعدة الأولى :

تتشابه النصوص [الشرعية أو القانونية] وتتلاقى في موضوعاتها العامة دون الموضوعات الخاصة.

 

القاعدة الثانية :

تتشابه النصوص [الشرعية أو القانونية] وتتلاقى في وسائلها دون أن يعني هذا تماثلها.

 

القاعدة الثالثة:

تتشابه النصوص [الشرعية أو القانونية] وتتلاقى في غايتها بالضرورة وهو ما يسمى بالوحدة الغائية.

 

قواعد المبدأ الثاني[ مبدأ استحالة التناقض والتعاكس بين النصوص]

 تسقطُ النصوصُ بالضرورة حالَ تناقض أحكامِها وتخالُفِ قواعدها بما يعني استحالةَ الجمع بينها

 

القاعدة الأولى: يمكن تصوُّرُ تنازع ِالنصوص في أحكامها وتداخلها في قواعدها ويصعبُ تصوُّرُ تناقضها وتعاكسها .

القاعدة الثانية : ينتفى التناقضُ بين النُّصوص حالَ التوفيق بين أحكامِها والتأليفِ بين دلالاتها

القاعدة الثالثة: يتوجَّبُ استقصاء التوفيق بين القواعد والتأليف بين الدلالات قبلَ الحكم باستحالة الجمع بينها

 

وتؤسس المبادئ السابقة بقواعدها الكلية لما يمكن أن نسميه نسميه بـــ”منطق فهم النصوص وتفسيرها” –كما عبرنا عنه في درستنا الموسومة بهذا الاسم- وعلى الأخص النصوص الشرعية والنصوص التشريعية القانونية، هو يعبر عن نموذج فكري عام يسعى إلى تقرير قواعد الفهم والتفسير واستنباط الأحكام من نصوصها الشرعية ونصوصها القانون، وهو:”آلةٌ قانونيَّةٌ” كما عرَّفها الأقدمون وهي توجِّه الفكرَ نحوَ الصوابِ –ولعل هذا أولى من قولنا- تعصم الذهن عن الخطأ.

ويمكن في هذا السياق التعبير عن بعض تلك المبادئ المنطقية العامة في الآتي :

-تتصل المتناظرات النصية (الشرعية والقانونية) في مدلولاتها وتفسيرها وأحكامها.

-تتكامل المترابطات النصية النصوص في موضوعاتها أو في وسائل أو غاياتها بالضرورة

-تتسق النصوص المتناظرة (في الموضوع والغاية) في مدلولاتها وتفسيرها وفي أحكامها.

-تتصل النصوص المتشابهة فيما تشابهت فيه بالضرورة دون غيره .

يصعب تماثل النصوص في موضعها وفي وسائلها وفي غاياتها وإلا كان النص واحدا لا متعددا .

– لا يلزم بالضرورة تغاير المتخالفات من النصوص الشرعية والقانونية -في موضوعها وفي أهدافها- في مدلولاتها وتفسيرها وفي أحكامها.

[فقد تكون العقوبة واحدة في قوانين متغايرة من خلال نصوص متخالفة في موضوعها وفي أهدافها ، مثل الإعدام في القتل العمد بشروطه والإعدام في الجريمة الإرهابية بشروطه، وفي الاتجار بالمخدرات بشروطه أيضا] [ راجع للتفصيل دراستنا : النظرية العامة للغة القانونية (أصولها وأحكامها وواقعها القانوني المعاصر)، د. محمد عبد الكريم الحسيني ،كلية الشريعة والقانون 2021م]

 

تطبيقات قضائية :

نموذج عملي من أحكام النقض:

 

في قضائها حيث الطعن رقم (١٠٧٢٢ ) لسنة ٨٤ قضائية- الدوائر التجارية – جلسة ٢٠١٩/٠٤/٢٣ مكتب فنى ( سنة ٧٠ – قاعدة ٨٠ – صفحة ٥٩٠) وتحت عنوان شركات “شركات الأموال : شركة المساهمة – إدارة الشركة- الجمعية العامة للمساهمين- مجلس الإدارة ” .

تذكر المحكمة أن: ” مفاد المادتين ٧٩، ٨٥ من القانون رقم ١٥٩ لسنة ١٩٨١ أن المشرع منح مجلس إدارة شركات المساهمة حق تعيين رئيس المجلس من بين أعضائه وأجاز له تعيين نائباً للرئيس يحل محل الرئيس حال غيابه، وأن يعهد للرئيس بأعمال العضو المنتدب، كما يوزع المجلس العمل بين أعضائه ويندب عضواً أو أكثر لأعمال الإدارة الفعلية، وهذا كله لا يتعارض مع ما قرره القانون ذاته للجمعية العامة من اختصاصات في المواد من ٥٩ إلى ٧٦ منه …”

ثم تعقب على ذلك بقولها ” وهو ما يتفق مع التفسير الصحيح للأحكام الواردة بالقانون المشار إليه بشأن اختصاص كل من الجمعية العامة ومجلس الإدارة والتي يجب أن تؤخذ في مجموعها للوصول إلى قصد الشارع منها دون أن يؤدى إعمال حكم منها إلى إلغاء الأحكام الأخرى أو تعطيل آثارها”.

تنص على مؤيدات ما سبق بقولها: “ويؤيد هذا النظر – أن مجلس إدارة الشركة المساهمة هو صاحب السلطة في تعيين رئيسه ونائبه من بين أعضائه وتنحية أي منها عن منصبه – أن اللائحة التنفيذية للقانون رقم ١٥٩ لسنة ١٩٨١ الصادرة بقرار وزير الاستثمار والتعاون الدولي رقم ١٦ لسنة ١٩٨٢ نصت في المادة (٢٤٦) منها على أنه “يعين مجلس الإدارة من بين أعضائه رئيساً، كما يجوز له أن يعين نائباً للرئيس يحل محل الرئيس حال غيابه، ويكون التعيين في منصب رئيس المجلس أو نائب الرئيس لمدة لا تجاوز مدة عضويته بالمجلس ويجوز تجديد التعيين في تلك المناصب كما يجوز للمجلس أن ينحى أيهما عن منصبه في أي وقت”.

ثم خلصت إلى تأسيس حكمها وفقا للتفسير القانوني الصحيح بناء على المبدأ العام في التفسير سابق الذكر فانتهت إلى أنه :” لما كان ذلك، وكان الحكــــــــــــــــــــم المطعون فيه قد التزم هذا النظر وقضى بصحة قــــــــرار مجلس إدارة الشركة … المعقود بتاریخ ٢٠ / ١٠ / ٢٠٠٨ الذي عين رئيس مجلس إدارة جديد بدلاً من الطاعن مع بقاء الطاعن بصفته عضواً بالمجلس استناداً إلى أن الدعوة إلى الاجتماع تمت من ثلث أعضاء المجلس وموافقة الهيئة العامة للاستثمار عليه واعتماده، فإذ انتهى إلى رفض دعوى الطاعن رقم … لسنة ١ ق القاهرة الاقتصادية فإنه يكون قد أصاب صحيح القانون ويكون النعي عليه بما ورد بهذا الوجه على غير أساس.”

[ راجع الطعن رقم ١٢١٠٣ لسنة ٨٢ قضائية، الصادر بجلسة ٢٠٢٠/٠٣/٠٤ ، مكتب فنى ( سنة ٧١ – قاعدة ٣٢ – صفحة ٢٦٠]

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى