أطوار الإنسان محاولة للفهم (2)
من تراب الطريق (1013)
أطوار الإنسان محاولة للفهم (2)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 5/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
تلك الظروف تتغير وتتقلب مع تغير الأزمنة والأجيال، لأنها مجرد أحوال وقتية وعوارض تظهر وتختفي في الجماعات البشرية، فهي ليست ذواتًا ونفوسًا كالأفراد، وإنما هي تكتلات لجموع اجتمعت بالمصادفة أو بالميلاد في محيطها.. عاشوا عمرهم قريبين، فألفوا القرب والتعامل بعضهم مع بعض، واعتادوا رؤية أمثالهم بغير مشقة كدوائر فيها الضيق وفيها الأكثر اتساعًا فالأكثر وهكذا.. فإحساس كل منا بوعيه هو وبذاته هو ـ شيء فطري ملازم له يولد به ويموت بموته، أما الجماعات فأوعية لأفرادها.. يشعرون بوجودها من خلال إحساسهم المستمر المعتاد بوجودهم فيها معًا.. وكثيرًا ما وجدت وتوجد حتى الآن جماعات أغلبيتها بيضاء اللون وأقلياتها ملونة أو سوداء والعكس، ودون أن يوجد مانع مشروع يحول بين الفرد وبين تغيير قوميته أو جنسيته متى شاء !
فالجماعات البشرية ليست مخلوقات فطرية، بل هي دائمًا وأبدًا كائنات اجتماعية.. بداياتها مصادفات نشأ عنها استمرار الاجتماع بين أفراد من طريق التناسل والتوالد.. ثم نمت وانتقلت من بساطة المصادفة إلى الاستمرار في حيز المكان، ثم إلى الاتساع إن ساعدتها الظروف التي قد تعود فتردها إلى الضيق والانحصار.. وربما ترجع بها ظروف أفضل إلى السعة والثراء، وذلك على مقدار ثوابت الطبائع والكفايات في عموم الأفراد وبقاء وثاقة روابطهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض.. هذه الروابط والعلاقات التي قد يقويها على النهوض ـ محافظتها على تشابه السحن وتمسكها بها في اختيار الأمهات، درج الناس على أن التشابه في الجنس الاجتماعي القومي بين الرجل والمرأة أضمن ـ لبقاء العلاقة الأسرية.. وقومياتنا صلات وعلاقات وروابط بين الأفراد موجودة أنواعها وألوانها من قديم الزمان، وهي دائمًا قابلة للارتخاء والانقباض بتأثير التغيرات المتوالية بغير انقطاع على حال وحالة كل منا نتيجة الانفعالات المتعاقبة المطردة في العواطف والرغبات والشكوك والمخاوف، ومن ثم تتحول اتجاهات الأفكار والخواطر والإرادات، ويحدث انقسام وتشتت الآراء والميول.. لأن كل فرد في كل قومية أو جماعة لا يعبر عما يحسه أو يراه أو ينويه أو يعزمه أو ينفذه ـ إلاً بنفس الألفاظ والعبارات تقريبا من اللغة السائدة في محيطه.. يبألفاظ وعبارات اللغة السائدة التي اعتادها هو.. وهو دائمًا ما يتخطى ظنه ـ نسبية تفسيره إياه وفهمه له.. فنحن جميعًا ذكورًا وإناثًا تتغذى عواطفنا وعقولنا دائمًا علـى افتراضـات يفترضهـا كل منا أو معظمنا أو الصفوة منا.. هذه الافتراضات قد تصـدق أو لا تصدق، لكنهـا تتيـح لنا حظنا ضمن ما تتيحه ظروف الحياة المكتوبة لكل منا.. فنحن جميعًا دون بقية الحيوان والنبات ـ غير ثابتين على أحوال محدودة لا نتجاوزها أو نتعداها.. عرضة دائمًا لما نسميه الخير والشر بحسب ما اجتمع لدينا عندئذٍ أفرادًا وجماعات من مقوماتها التي معنا. فخير البشر وشرهم المتعارف عندهم ـ غير ثابت ما عاشوا. تناوب عليهم أحوال هذا وذاك ومعها ترحيبهم وفرحهم بما تطمئن إليه نفوسهم أو صياحهم ومرارتهم وشقاؤهم مما يعرض لهم من شرور وملمات !
والصيغ التي نتداولها للتعريف بالقيم السائدة اصطلاحًا فيما بيننا ـ تعطى لمرددها معاني تختلف باختلاف انتباه والتفات كل فرد في وقت تذكره أو تذكيره بها، ويتضاءل جدوى الانتباه أو الالتفات لحياة كلّ منا لأن الإهمال والنسيان يمحوانهما.. إذ النسيان عدو وقسيم التفاتنا للقيم، وهو دائمًا نتيجة لما يمثل في الحاضر من صور وآثار لها في الذاكرة والوعي معًا.. إما بعيدة عن تلك القيم، وإما رافضة لها رفضا كليًا، وإما مستهينة بها ملحة على عدم المبالاة بها في الآن حتى لا تضيع الفرصة السانحة أو المنتظرة المرجوة.. وعندئذٍ تعترض الميول والشهوات وتطرد قيم الآدمي ومبادئه.. ولم تفكر البشرية إلى يومنا هذا في منع ذلك وقمعه، لأنه فيما يبدو ـ حاصل تشترك فيه الأكثرية.. عاقلنا وأحمقنا، وعالمنا وجاهلنا، وذكينا وغبينا، وغنينا وفقيرنا، وصحيحنا ومريضنا !
وربما كان معنى هذا أن البشرية ما زالت متعثرة.. لم تعبر أواخر مراحلها الأولى، ولم تصل بعد إلى نضجها !