أزمة الزعامة السياسية (9)
من تراب الطريق ( 1279 )
بقلم الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الأحد 13/3/2022
ــــــــــــــــ
تستطيع أن تقول إن « جان بول مارا » ، قد جنبه « إغتياله » من المصير المحتوم الذى كان يتجه به إلى المقصلة ، وقصته مع الثورة تورى بهذا ، وبأنه كان بعد شعبية هائلة ، ينحدر إلى سفح المقصلة التى أطاحت بكثير من الرءوس ، قربانًا لثورة الحرية والمساواة والاخاء . كان « مارا » الصحفى الأكثر نفوذًا خلال الثورة الفرنسية ، ومهد لشعبيته صحيفته المسماة بـ « صديق الشعب » ، وكانت أكثر الصحف الراديكالية شهرة إبان الثورة ، ويعود الفضل إلى صحافته الاستفزازية فى لعبه دورًا مهمًا فى العديد من الأحداث الراديكالية للثورة ، بما فى ذلك مسيره المرأة إلى فرساى ، وتعليق النظام الملكى ومذابح سبتمبر ـ بدأ حياته العملية فى سن السادسة عشرة ، حين تولى فى بوردو تعليم أولاد تاجر سويسرى يدعى « نيراك » ذى خلفية سويسرية وعقيدة « كالفنية » نسبة إلى « كالفن » ، وبعد سنين انتقل إلى باريس فى 1762 حيث درس الطب دون أن يحصل على دبلوم ، وبدأ مزاولة الطب من عام 1765 . لم يكن الطب يستغرقه ، وجذبته الدراسة الفلسفية ، وانجذب إلى روسو و مونتسكيو ، وأقام إحدى عشرة سنة متصلة بين إنجلترا واسكتلندا ( من 1765 إلى 1776 ) وألف فى تلك الأعوام كتابه المهم « أغلال العبودية » ، وبعد عودته إلى باريس افتتح عيادة عام 1776 ، وكان قد حصل على الدبلوم فى إنجلترا، ثم عين طبيبًا للحرس الخاص بالكونت « دارتوا » ومكنه ذلك من التعرف على كثير من النبلاء ، وتحقيق النجاح الإجتماعى .
ودعنا نغضى عن سرد باقى تفاصيل حياته ، فالمهم هنا كيف التحق بالثورة ، ونال مكانة عريضة فيها ، ثم كيف تعرض للقبض عليه بأمر من « لافييت » ، لولا أن نجح
« دانتون » فى تهريبه على ما اسلفناه ، وكيف كان ينحدر تباعًا إلى المقصلة !
كان قد أصدر فى سبتمبر 1789 جريدة « صديق الشعب » ، وعنى فيها بالتحليل السياسى ، وفى البداية كان يتلقى بعض الإعلانات من بعض التقدمين الإنجليز لإصدار جريدته ، وكان هذا سببًا فيما بعد لاتهامه بأنه يتلقى معونات من الخارج ، ثم اقتصر فى الإنفاق على « صديق الشعب » بما كان يتلقاه من إعانات من نادى « الكوردلييه » ، الذى يرأسه « دانتون » الذى حماه من مطاردة لافاييت والبوليس على نحو ما مر بنا .
وكان مارا هو الذى قاد الثورة الشعبية فى مايو / يونيو 1793 ، وظلت شعبيته واسعة بين الجماهير ، وفى بداية عام 1793 قاد الحملة على « الجيروند » بسبب خيانة « ديموريتيز » ، وقد حاول الجيروند محاكمته ، ولكنه خرج منتصرًا .
ومن أجل « الجيروند » ــ اغتالته « شارلوت كورداى » فى 15 يوليو 1793 فى منزله بعد أن استدرجته إلى الإفصاح عن دمويته تجاه « الجيروند » ، بأن سردت له بناء على طلبه أسماء النواب « الجيروند » اللاجئين فى « كان » ، وإذا به بعد كتابة الأسماء يعقب قائلا « هذا طيب ! فى خلال ثمانية أيام سيذهبون إلى المقصلة » !.. كان هذا ما تريد أن تعرفه لتأكيد عزمها على اغتياله ، واستلت سكينًا أغمدته فى صدره ، ولم تسعفه استغاثته بصديقته « سيمون إيفرار » المقيمة معه ، والتى تزوجها على نظام روسو .. أى أمام الشمس والطبيعة ، وأسلم الروح فى لحظات ، وذكرت شارلوت إنها « قتلت وحشًا كاسرًا كان يلتهم كل الفرنسيين » واقتيدت « شارلوت » إلى المقصلة بعد يومين !
ولولا هذا الاغتيال ، لكان مصيره المحتوم إلى المقصلة !
أجل ، بعد اغتياله ازدادت شعبيته ، وقيلت فيه القصائد ، ولحنت الترانيم ، وسميت الأماكن والميادين والشوارع والمدارس باسمه ، بيد أنه لم تمض سوى أربعة أشهر ، إلاَّ وأحرقت صورة « دمية » ترمز له فى فناء نادى اليعاقبة ، وألقى الرماد فى مجارى « مونمارتر» التى كانت قد غيرت اسمها إلى « مونمارا » ، واختفى قلب مارا من نادى « الكوردلبيه » ولما لم يتقدم أحد من أصدقائه لطلب رميمه ، الذى كان مدفونًا بمقبره بحديقة نادى « الكوردلبيه » ، ومنقوش عليها :« هنا يرقد مارا صديق الشعب ، قتله أعداء الشعب » ، أخرج الرميم من المقبرة وصرح بدفنه فى أقرب جبانة .
لو كان « مارا » حيًّا لكان مصيره المحتوم المقصلة ، لولا أن اغتيل قبل أربعة أشهر من الانقلاب عليه !