من تراب الطريق ( 1277 )
ــــ
نشر بجريدة المال الأربعاء 9/3/2022
ـــــــــــــــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
تاريخ الثورة الفرنسية التى شبت عام 1789 ، أبلغ الآيات على ما تعانيه الزعامة السياسية من أمراض تعصف وقد عصفت بالجميع فى تلك الثورة المتخَذة مثالاً للثورات ، ومثلاً للحرية والمساواة والإخاء ، ولا زالت فرنسا حتى اليوم ، تحتفل فى 14 يوليو من كل عام ، احتفالات رسمية ، ومهرجانات شعبية ، تجديدًا لذكرى الثورة ، وسقوط الباسثيل الذى كان فاتحة أحداثها .
وحين تراجع تاريخ تلك الثورة ، تطالعك قيادات بارزة احتلت مكانًا سامقًا فى قيادتها وإدارة أحداثها . روبسبير ، ودانتون ، وسان جوست ، وميرابو ، وسييز ، وسيروتى ، وجان بول مارا ، وجاك بيير بريسو ، ولافاييت .
فإذا أكملت القراءة والمراجعة ، سوف يصدمك أن كل هؤلاء جميعًا عدا ثلاثة أو أربعة ، قد قطعت رءوسهم على ذات المقصلة التى أرسلوا إليها الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة مارى أنطوانيت ، وعديدين من النبلاء وسادة الإقطاع ، وكثيرين أيضًا من البسطاء والعامة ، ومنهم من شُيّع فى جنازة مبهرة ، وكان أول من يُدفن فى مقبرة العظماء المسماة بـ « البانتيون » أى الخالدين ، ثم ما لبثت الجماهير أن اكتشفت عمالته سرًّا للملك والملكة ، وازداد الموقف سوءًا حينما اتضح أنه كان يبيع خدماته للعرش مقابل المال ليسدد ديونه ، وأنه صار مستشارًا سرّيِّا للملك والملكة ، فلعنته الجماهير وكفرت به ، بعد أن كان معبودها المقـدس ؛ وأُخـرج رفاتـه مـن « البانتيون » ، بعد أن تأكد تواطؤه مع القصر !
ويرى من يتابع أطوار الثورة الفرنسية ، أن أزمـة الزعامـة السياسيــة لا تنحصر فقط فى « الإقصاء » ، وإنما للأزمة وجوه متعددة ، أخطرها « الانفراد » نتيجة الإقصاء المتتالى ، هذا الانفراد الذى سرعان ما يتحول إلى « استبداد » وما يؤدى إليه هذا الاستبداد من أسقام عديدة وتداعيات خطيرة على الحياة والناس .. حريتهم وحقوقهم ، وحياتهم ذاتها !
كما نرى أن الزعامة عانت من الأدعياء والمنافقين واللاعبين على الحبال ، ومن الفاسدين والمرتشين ، الذين يلوثون ثوب الثورة ، وينحدرون بها بعيدًا عن المبادئ السامية التى قامت من أجلها !
زعيم الثورة الفرنسية الأكبر ، ماكسيمليان روبسبير كان تجسيدًا كاملاً للثورة ، ونصيرًا للفقراء ، مؤمنًا بجان جاك روسو ، وفُتنت به الجماهير ، وبلغت شعبيته مداها عام 1791 عند حل الجمعية التأسيسية ، وأطلق عليه « رجل الساعة » ، وبعد إعدام الملك خرج بنظرية أن أخطار الفوضى أقل ضررًا من أخطار الأوليجاركية أى حكم الأقلية ، وصار مطلق اليد فى فرنسا بعد إزاحة « الجيروند » ( وهم أعضاء حزب سياسى نشأ أثناء الثورة واسمه نسبة إلى مقاطعة جيروند ) ، وهم يمثلون البرجوازية ويؤمنون بالملكية الخاصة ، ويخشون من سيطرة نواب باريس ( من أشهرهم روبسبير ودانتون وجان بول مارا ) ويؤثرون إنشاء جمهورية فدرالية بعد التخلص من الملكية .
ولكن بحلول منتصف عام 1794 ، ما لبث روبسبير أن صار هدفًا للمؤامرات ، ولم ينفعه إنكاره أنه ليس فى نيته إقامة حكم دكتاتورى ، ونشط أعداؤه فلم تمض سوى 24 ساعة إلاَّ وتم القبض عليه ، وحاول الانتحار تجنبًا للمقصلة ، وأفرغ مسدسه فى حلقه ، إلاَّ أنه لم يمت ، وبقى ممدودًا بين الحياة والموت على المائدة التى وقَّع عليها الحكم بإعدام « دانتون » و« هيبيرون » ، وبعد أن طافت به الجماهير فى الشوارع على عادتهم ، وفى السابعة مساءً سقطت رأسه تحت الجيلوتين !!