ظنى أن التطرف فى الطعن ، يعكس احتكامًا مطلقًا إلى الذات ، وتهوينًا من شأن وآراء الآخرين ، ويأخذ صورة الاستبداد وهو الآفة التى أدت فى كل العهود إلى ظاهرة الإقصاء ، والانفراد بالسلطة !
وبانتقال قيادة الوفد إلى مصطفى النحاس ، ما لبث أن بدت ذات الظاهرة التى أعيت الحياة السياسية فى مصر وفى غيرها كالثورة الفرنسية وما أسفرت عنه فى النهاية .
حمل عاما 1931 ، 1932 ــ انشقاقًا خطيرًا فى الوفد قيادة مصطفى النحاس باشا ، فقد اختلف الوفديون حول قبول فكرة الحكومة الائتلافية ، وعقدت لجنة الوفد اجتماعًا لبحث هذه المسألة ، توافقت الأغلبية على فكرة الحكومة الائتلافية فالظروف آنئذ تستوجبها ، إلاَّ أن الأقلية وفيهم مصطفى النحاس رئيس الحزب رفضت رأى الأغلبية ، وبالغ النحاس باشا فاتهمهم بالاعتماد على المساندة البريطانية اعتمادًا مبالغًا فيه ، وهذه تهمة خطيرة لأقطاب من وزن فتح الله بركات وحمد الباسل وفخرى عبد النور وعلى الشمسى وجورج خياط وعلوى الجزار ومراد الشريعى ومحمد نجيب الغرابلى . ولكنه داء الانفراد بالرأى ، والطعن فيما سواه .
ووصف فتح الله بركات فى مذكراته كيف أن مصطفى النحاس باشا قد فقد أعصابه فى إحدى اجتماعات لجنة الوفد ، لرفض أغلبية أعضائه طلبه بإصدار نداء إلى الشعب يحثه على النهوض فى وجه الاحتلال البريطانى ، وهدد بأنه سيصدره بمفرده إذا لم تقره الأغلبية ، إنه داء الانفراد بالرأى ، ورفض ما عداه .
ونشأ الخلاف بين أعضاء الوفد ، عندما تقدم واحدٌ من فريق الأغلبية المؤيدين لفكرة الوزارة الائتلافية وهو « نجيب الغرابلى » بطلب استقالة من الوفد فى أغسطس 1932 لخلاف شخصى بينه وبين « مكرم عبيد » سكرتير الوفد ، ورغم أن «الغرابلى» سحب استقالته ، إلاَّ أن « النحاس » قبلها وأعلن استقالته فى أكتوبر 1932 ، فاعترض على هذا الإعلان من أعضاء الوفد : فتح الله بركات ، وحمد الباسل ، ومراد الشريعى ، وعلوى الجزار ، وفخرى عبد النور ، وعطا عفيفى ، وراغب إسكندر ، وسلامة ميخائيل ، وجميعهم يمثلون فريق الأغلبية ، ولم يبال مصطفى النحاس باعتراضهم ، فنشر الأعضاء الثمانية بيانًا أعلنوا فيه تضامنهم مع الغرابلى ، وانقطعوا مؤقتًا عن حضور جلسات الوفد ، واعترضوا على قيام النحاس والأقلية بفرض إرادتهم على الأغلبية ، ولتتحكم الأقلية فى الأغلبية وهو ما يرفضه المنطق ، ولا يستقيم مع مطالبة الوفد بالدستور الذى ينص على حكم الأغلبية ، وتسقط بالتالى الحجة فى محاربة وزارة « إسماعيل صدقى » لكونها أقلية تتحكم فى الوفد وهو الأغلبية .
بيد أن رد مصطفى النحاس جاء عنيفًا ، لا احتكام فيه للعقل وحق إبداء الرأى ، فأصدر فى 20 نوفمبر 1932 بيانًا اعتبر فيه مسلك هؤلاء الأعضاء خروجًا على الوفد ومن ثم قرر فصلهم عدا فتح الله بركات الذى أمهله لتحديد موقفه بعد شفائه من مرضه ، ولم يلبث « على الشمسى » أن أعلن تأييده للأعضاء السبعة المفصولين من الوفد ، فلم يتوان النحاس فى فصله من الوفد ، ونسى فى هذا الفصل الفردى المتكرر ، ما نص عليه البند السابع من قانون الوفد من أنه لا يجوز فصل أحد أعضاء الوفد إلاَّ بموافقة ثلاثة أرباع أعضاء الوفد .
وهكذا بلغ عدد المنفصلين سنة 1932 ثمانية أعضاء ، أطلقوا علـى أنفسهـم « الوفد السعدى » ، بينما أطلقت عليهم صحافة الوفد « السبعة والنصف » لمزًا على « على الشمسى » الذى كان قصير القامة .
ولاشك أنه كان لكل من الأجنحة المختلفة حجته وأسانيده فيما يراه ، إلاَّ أن الاستبداد بالرأى حال دون التعامل بسلام وسعة حين تتباين الآراء ، وسرعان ما يأخذ الاختلاف فى الرأى شكل الصراع ، الذى دائمًا ما يحسم لصالح رئيس الحزب ! وقد أدت هذه التداعيات إلى انحصار قيادة الوفد بين أربعة : « مصطفى النحاس ، مكرم عبيد ، أحمد ماهر ، النقراشى » ، ومع أن النحاس باشا كان قد عين اثنى عشر عضوًا جديدًا فى الوفد ، منهم ثمانية من كبار ملاك الأراضى الزراعية ،إلاَّ أن ميزان القوى داخل قيادة الوفد قد استقر بالكامل فى أيدى هؤلاء الأربعة .
بيد أن دائرة الأربعة ، لم تصمد وحدتها مع الأيام ، للاختلاف فى الراى الـذى لا يطيقه رئيس الوفد ، مع كامل الاحترام لوطنيته واستقامته وإخلاصه ، وهى مزايـا لا تنكر على مصفى النحاس باشا .