أقرب الدكتاتوريات زمانًا بالثورة الفرنسية ، هى دكتاتورية نابليون بونابرت ، تلك الدكتاتورية التى كانت من مفرزات تلك الثورة ، وقد كان بونابرت ( 1769 ــ 1821 ) محسوبًا عليها ، ومعدودًا منها . كانت الثورة الفرنسية منتشرة وعنيفة بحلول عام 1793 ، وواجهت من بدأوا فى حمل السلاح لدعم الفصيل الملكى ضد قوات الثورة ، حتى صارت فرنسا فى حرب أهلية ، بينما انخرطت فى حروب مع دول أخرى أرادت استعادة النظام الملكى .
فى هذه الظروف الملتبسة بزغ نجم نابليون ، وصعد إلى الصدارة كقائد للحكومة الثورية ضد القوات الملكية ، ونجح فى سحق تمرد داخلى ، ثم قاد عدة حملات ناجحة ضد تحالف الدول الأوربية ، وحقق انتصارات مشهودة فى كل معاركه ، حتى أصبح بطلاً قوميًّا فى فرنسا بسبب موهبته العسكرية الفذة ، واستغل هذا الوضع لتنظيم انقلاب 11 بروميو للإطاحة بالحكومة ، وغدا القنصل الأول للجمهورية الفرنسية ، وسرعان ما أصبح إمبراطورًا لفرنسا عام 1804 ، وجعل من فرنسا القوة الأوربية الأولى والرائدة .
حين انفرد بونابرت بالسلطة ، كان كل زعماء الثورة الفرنسية قد طارت رقابهم على المقصلة ، ومن نجا لحق به الموت أو الفرار إلى خارج فرنسا ، ومن ثم صار الإمبراطور هو الحاكم المطلق ، والدكتاتور المستبد ، المتحكم فى كل المصائر ، والرقاب ، وقصته جديرة أن تُروى كمثل واضح على أزمة الزعامة السياسية ، وما يعترضها من الإقصاء والانفراد بالسلطة ، والحكم الدكتاتورى المستبد .
كان لأعماله وتنظيماته تأثير كبير على السياسة الأوربية فى العقد الأول من القرن التاسع عشر ، وهيمن خلال فترة حكم لا على فرنسا فحسب ، بل هيمن على الشئون الأوربية والدولية ، فقد قاد فرنسا إلى سلسة انتصارات عسكرية مبهرة على كل القوى العسكرية التى اعترضته ، فيما عرف بالحروب النابليونية ، وبنى إمبراطورية كبيرة سيطرت على معظم أنحاء أوروبا حتى سنة 1815 ، وقد كان هذا كله مادته لصيرورته الدكتاتور المستبد الأوحد ــ فقد حلا للناس كبطل قومى لا يشق له غبار ، وصعد بفرنسا إلى أعلى عليين , وما كان يمكن أن يحلو فى عيون الناس حتى قارب الشمس ، ولا يحلو فى عين نفسه ، وعشق ذاته ، وهذه أولى درجات الانفراد والاستبداد .
طفق ينتشر بقواته فى كل مكان ، وجاءه على رأس حملته إلى مصر عام 1798/1801 ، وامتدت حملته إلى الشام الجنوبية ، ولكنه فشل فى حصار عكا ، وقتل نائبه الجنرال كليبر فى مصر ، وأخفقت الحملة فى النهاية إزاء المقاومة المصرية ، واضطرت للرحيل عام 1801 ، وتورط فى غزو روسيا سنة 1812 ، وكانت هذه خطيئته الكبرى ، الناجمة عن انفراده بالرأى وبالسلطة ، فما أن توغل فى روسيا حتى أكلت جيشه البرودة والثلوج والمقاومة الروسية ، فأصيبت قواته بأضرار وخسائر جسيمة ، بشرية ومادية ، ثم هزم سنة 1813 فى معركة الأمم ، وفى السنة التالية اجتاحت القوات فرنسا ودخلت العاصمة باريس ، وأجبرت نابليون على التنازل عن العرش ، ونُفى إلى جزيرة ألبار .
بيد أن بونابرت نجح فى الهروب بعد أقل من سنة ، ومن طرائف ما يروى أنه فور هروبه ، كانت التصريحات ومانشيتات الصحف تحمل « هروب الطاغية » ، «القوات تطارد الطاغية المتجبر» ، « سقوط الهارب صار وشيكًا » ، « هيهات أن ينجح » ، فلما طفق يقترب من باريس ، تعدلت الصياغات ، وأخذت تتراجع شيئًا فشيئًا ، حتى تغيرت إلى الإمبراطور المنتصر ، والقائد المظفر ! وهذا دائمًا حال الاستبداد !
لا يزرع إلاَّ الخوف ، عَبَّرَ الشعبُ عن الكامن فيه من ضيق ورفض للإمبراطور المستبد وهو بعيد ، فلم اقترب إقترب معه الذعر والخوف ، فانقلبت التصريحات من الرفض إلى الترحيب !
ما إن عاد للتربع على عرش فرنسا ، حتى استأنف هروبه لاستعادة مجده السابق ، ولكنه تلقى هزيمة مرة فى « معركة واترلو» فى يونيو 1815 ، واستسلم بعد ذلك للبريطانيين الذين نفوه إلى جزيرة « القديسة هيلانة » ، المستعمرة البريطانية ، حيث أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته تمضية مهينة ، وعَزَّ عليه الطعام والكساء ، واسودت أمامه الحياة ، حتى غادرها فى 5 مايو 1821 عن واحد وخمسين عامًا . قيل إنه توفى بسرطان فى المعدة وقيل بل مات مسمومًا ، ودفن حيث مات ، ولكن نجحت فرنسا فى استرداد جثمانه بعد سنوات ، ليدفن فى « الإنفاليد » .
لم يكن سقوطه الشخصى هو كل أزمة الزعامة حين تنفرد بالسلطة وتقصى من عداها ، وإنما أضر ببلاده وشعبها ضررًا بالغًا ، لم يكن ليحدث لولا هذه الآفة من آفات الزعامة التى لم ينج منها إلاَّ من حكَّم عقله ، ولم يأخذه التيه بالسلطة بعيدًا عن الحكمة وسداد الفكر والرأى والقرار !