أزمة الزعامة السياسية (11)
من تراب الطريق ( 1281 )
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الثلاثاء 15/3/2022
إحتل « ميرابو » أو الكونت دى ميرابو ، مكانة مرموقة بين زعماء الثورة الفرنسية ، وكان من أخطب خطبائها ، هو القائل للعبارة المشهورة فى مقر اجتماع الجمعية الوطنية : « نحن هنا بإرادة الشعب ، ولن نخرج من هنا إلاَّ على أسنة الرماح » .
كان من طبقة النبلاء ، ولكن طبقته تبرأت منه لانحيازه المستمر للجماهير ، وتجمع الروايات على أنه كان مستهترًا فاجرًا فى شبابه ، وامتلأت حياته بالفضائح والديون ، واعتُقل بطلب أبيه بأمر ملكى لتأديبه ، ولكنه هرب من السجن مع زوجة مأمور السجن ، وفر إلى إنجلترا وهولندا ، وقضى 42 شهرًا سجينًا فى سجن
« فانسين » ، ما بين سنتى 1777 ، 1780 . وعاش على ما يكتبه من منشورات وكتيبات ضد الملكية المطلقة ، وكما رفضته طبقة النبلاء , رفضته الطبقة الثالثة ، وأخفق فى انتخابات « مجلس الطبقات » ، ولكنه عاد وفاز فوزًا كبيرًا كنائب عن «الطبقة الثالثة» ، فى اكس ان برفاتس ومرسيليا .
ورشحته خطبه لشق طريقه ، واستخدم بلاغته فى الدعوة للديمقراطية ، ولكن فى حدود الملكية المقيدة أو الملكية الدستورية ، ولكن فى مايو 1790 بعد عام من قيام الثورة ، دفعته أزماته المالية إلى الاتصال سرًّا بالبلاط ، فاشتراه القصر الملكى ليدافع عن سياسته مقابل تسديد ديونه ، وكان فى هذا مقتله . دفن عندما مات 24 أبريل 1791 فى جنازة مهيبة ، فى « البانتيون » مقبرة الخالدين ، بل وكان أول من دفن فيها ، ولكن ما لبث أن افتضح اتصاله بالقصر وتواطئه معه ، فأُخرج رفاته من المقبرة فى سبتمبر 1794 ، وأُلقى به فى مقابر العامة !
كانت أزمته حاجته المستمرة للمال لتغطية ديونه المتزايدة ، مما جرّه إلى عدم حفظ التوازن بين سلطة العرش وسلطة الأمة ، وتخيل أنه يستطيع أن يكون فى خدمة العرش والشعب معًا .
قيل إنه فى يوم 3 يوليو 1790 ، وهو يوم مناقشة الجمعية التأسيسية لمن يكون له إعلان الحرب والسلم ، هل الملك أم الجمعية الوطنية ، فى ذات اليوم كان « ميرابو» على لقاء مرتب مع الملكة « مارى إنطوانيت » فى حدائق قصر « سان كلو» ، بعد أن كان « ميرابو» قد تلقى فى نهاية مايو مبلغًا من المال من القصر ، وإذا به يدافع فى الجمعية التأسيسية عن حق الملك فى إعلان الحرب والسلم ، مما جعل الجماهير تنقلب عليه وتطالب بإعدامه شنقًا بوصفه عدو للشعب .
تعالت هذه الاتهامات المضادة ، قبل أن يعرف الشعب أنه خرج من اجتماع الجمعية التأسيسية ليلتقى بالملكة ، ولم يقطع أحد بما دار بينهما ، وإن كان البعض يوحى بأن « ميرابو» طرح على « مارى إنطوانيت » تصوره لكيفية إنقاذ العرش وحريات الشعب معًا ، ونُقل أنه لم ينصرف من اللقاء قبل أن يُقبّل يد الملكة قائلًا لها فى حرارة :
« سيدتى إن الملكية قد أُنقذت » .
ومن حسن حظ « ميرابو» أنه مات بعد شهر من هذا اللقاء ، قبل أن يتسرب لقاؤه السرى بالملكة ، وتواطؤه مع القصر .
ومن هنا كانت المفارقة الهائلة بين التشييع المهيب لجثمانه ودفنه ، وبين إخراج رفاته من « مقبرة الخالدين » ورميه إلى حيث ألقت !
يوم مات فى 12 أبريل 1791 ، كان الحزن عليه عظيمًا وشاملاً ، وأراد سكرتيره الذى يعبده أن ينتحر بحز رقبته ، وأغلقت المسارح ، وفضت الجماهير حفلاً راقصًا ، وسار على رأس موكب الجنازة الفتى الذهبى « لافاييت » ، ثم رئيس الجمعية الوطنية ، وخصصت كنيسة « سانت جنفييف » لتكون مقبرة لعظماء فرنسا تحت اسم « البانتيون »، وأمر بأن يكون « ميرابو » أول من يدفن فيها ، وعلى واجهة الكنيسة : « الوطن عارف بجميل عظماء الرجال » . وكان مدفونًا فيها ديكارت وفولتير وروسو .
ثم ما لبث أن انكشف ما كان خافيًا ، فكفرت به الجماهير ، وأمطرته باللعنات ، وأُخرج رفاته من مقبرة العظماء ، ليدفن حيث ألقت ؛ ويقول عنه « لامارتين » :
« هذا المهيج الجماهيرى العظيم لم يكن أكثر من رجل من رجال البلاط المذعورين ؛ الذين يحتمون بالعرش وهم لا يزالون يتشدقون بكلمات رهيبه مثل كلمة « الأمة » وكلمة « الحرية » ، رجل جعله دوره الذى أداه يصاب فى روحه بكل صغار البلاط . وبكل أفكارهم المغرورة . إن عبقريته تدعو للرثاء حين نراه يصارع المستحيل. لقد كان « ميرابو » أقوى رجال عصره ، ولكن أقوى الرجال لا يبدو أكثر من مجنون إذا ما صارع عناصر الطبيعة فى هياجها . إن الانهيار لا يكون جليلاً إلاَّ إذا سقط المنهار مع فضيلته » .