أدوار المؤسسات القانونية والسياسية في ازدهار اللغة القانونية
أدوار المؤسسات القانونية والسياسية في ازدهار اللغة القانونية
[فصول في “اللُّغة القانونية” (الفصل 5)]
بقلم: الدكتور/ محمد عبد الكريم الحسيني المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا
إنَّها العوامل الرئيسة لازدهار اللغة القانونية، إذ غدت في أزهى عُصورها وفي أوج قوتها بفعل الترجمة والأدب وتأسيس مدرسة الحقوق 1886م، وتأسيس البرلمان1824م وظهور الأحزاب السياسية1907م وتأسيس مجلس الدولة 1945م، وليت الخلف حافظوا على نهج السلف اللغوي في فصاحتهم وعنايتهم بلغتهم…!!!
من أهم هذه العوامل التي عملت على ازدهار اللغة القانونية في النظام القانوني بعامة وفي الجهاز القضائي بخاصة ستة عوامل ثلاثة عوامل سبق ذكرها وهي:
العامل الأول: نشاط حركة الترجمة والتعريب القانوني، حيث انتشطت مع البعثات العلمية حركة الترجمة عموما، الترجمة القانونية أو “التعريب القانوني” خصوصا….
العامل الثاني: انتعاش اللغة العربية، وظهور التيارات الأدبية الحديثة، فبرز البارودي وتلاه شوقي وحافظ إبراهيم وغيره بمدرسة الإحياء والبعث أو المدرسة الكلاسيكية…وهو ما مهد لظهور المدارس الأدبية الأخرى…
ولهذا تفاصيله في كتب الأدب والتأريخ الأدبي وكان من آثار انتعاش اللغة وازدهارها أن نشطت اللغة القانونية ونشطت المرافعات والخطب القانونية سواء الخطب أمام القضاء أو تلك الخطب الوطنية والسياسية والحزبية والتي كانت تقوم على تعزيز التحرر وتناهض الاحتلال وتدعو للاستقلال، وقد تبارى القانونيون السياسيون فيها في كل المحافل والمناسبات، وقد استرفدت اللغة كثيرا من ألفاظها واصطلاحاتها وتراكيبها من أعمال الترجمة القانونية والعلمية ومن تزاوج الثقافات اللغوية، فاستخرج المفكرون والأدباء أجمل ما في اللغة العربية من مهارات وإمكانات وأساليب.
العامل الثالث: تأسيس مدرسة الحقوق، حيث أنشئت في عهد إسماعيل 1868م باسم مدرسة الإدارة والألسن ” ثم انفصلت عن مدرسة الألسن عام 1882م. وقد استقلت بمدرستين:
أولهما: مدرسة دار العلوم 1872م، بعد تولي علي باشا مبارك ديوان المدارس سنة 1868م.
وثانيتهما: مدرسة الحقوق منذ 1886م [ انظر الدكتور رءوف عباس: تاريخ جامعة القاهرة ص 29].
أما العوامل الجديدة فهي:
العامل الرابع: تأسيس أول برلمان تشريعي عربي في مصر
بدأت الحياة البرلمانية في مصر في وقت مبكر جدا من عام 1824م بتأثير من البعثات إلى أوربا وفرنسا خاصة، على أنه لم تبدأ الحياة النيابية التمثيلية فعليا حتى عام 1866. ولا ننسى انه في عام 2016 م احتفلت مصر بالذكرى المائة والخمسين للحياة البرلمانية في مصر، كما ويجدر بالذكر تأسيس المجلس التشريعي المصري وهو ما الذي تجلت فيه خبرات ومهارات القانونيين في تكوين الشكل القانوني للقاعدة القانونية وصوغ جملها ونظم نصوصها.
على أنه منذ العهد الإسلامي لمصر كان الحكم والتشريع مستمدين بشكل أساسي من القرآن والسنة ومن الإجماع ثم المصادر الأخرى المختلف فيها مثل القياس والمصالح المرسلة وشرع من فبلنا وقول الصحابي والاستحسان والرأي وغير ذلك….، وكان الحكم قائما على مبدأ عظيم يماثل مبدأ الديمقراطية ألا وهو مبدأ الشورى، قال تعالى:” وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” [ الشورى: 38] وقال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” [ آل عمران (159) ]
فالشورى مأخوذة من اشتيار العسل، وهي ما يكون رأيا جماعيا متوافق عليه بين جِلَّة الناس من أهل الحل والعقد كما أعضاء البرلمانات التشريعية مع تقارب وتمايز في عدة أمور ليس هذا أوان التعرض لها، والشورى على أي حال واحدة من المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية في الإدارة والحكم.
العامل الخامس: ظهور الأحزاب السياسية 1907م كان ظهور الأحزاب السياسية في مصر في القرن التاسع عشر انعكاسًا للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك بعض الظروف التاريخية والوطنية والسياسية مما أدى إلى إنشاء وتطوير المؤسسات الحديثة للإدارة الحكومية والمجتمع مثل البرلمان والأحزاب سياسية والنقابات. وكان هذا الظهور تدريجيًا، إذ مر بمراحل متعاقبة. تشكلت الأحزاب السياسية أولاً كمجتمعات سرية تلاها تشكيل مجموعات سياسية.
وكان الحزب الوطني هو الحزب الأول الذي تشكل في عام 1907م من قبل مصطفى كامل باشا. وكان من ثماره ظهور قانونيين عظام ومناضلين سياسيين ضد الاحتلال الإنجليزي، وقد ازدهرت اللغة العربية مع هذا الحزب العروبي ذو الانتماء الإسلامي إذ كان يؤمن بالجامعة الإسلامية، وجل أعضائه من ذوي الثقافة المدنية الحديثة، ولم يكونوا من رجال الدين:” كانت عواطفهم الدينية تلون أفكارهم، وتوجه دعوتهم، كما كان لسياستهم ما يبررها – في نظرهم- من وجوب التكتل أمام قوى الغرب، ومن وجوب جمع كلمة المسلمين تحت فكرة الجامعة الإسلامية”.
ومثل الزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل هذا الاتجاه من خلال الحزب الوطني، وكان لسان حاله:” صحيفة اللواء ” وعليه كان نضالهم السياسي والقانوني يتسم بالطابع العربي الإسلامي ويرتبط بالتراث العربي، واهتموا بإشاعة القيم الإسلامية العربية واهتموا بالتراث العربي، ولم يفتتنوا كثيرا بالحضارة العربية الوافدة وكان لهذا انعكاسه الطيب على تطور لغة القانون وحماية اللغة العربية بصورة عامة.
ولا يفوتنا الإشارة إلى الاتجاه الوطني الثاني ممثلا في حزب الأمة الذي تزعمه لطفي السيد، وقاسم أمين، وكانوا من كبار الملاك وأصحاب النفوذ وغلبت عليهم فكرة القومية، وكان نشاطهم الإصلاحي يتسم بطابع عربي أوربي، وانشغلوا بالإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي مستمدين مثلهم من حضارة الغرب ومدنية أوربا إذ “نادوا بفصل الدين عن الدولة كما نادوا بفكرة الوطنية بمفهوم عقلي مصلحي لا بمفهوم وجداني حماسي كذلك دعوا إلى تفسير نصوص الدين بما يلائم الحضارة ويتفق مع التطور وظهرت في هذا المجال دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة ” [[د. أحمد هيكل: تاريخ الأدب في مصر في العصر الحديث ص 102 ].
العامل السادس: تأسيس مجلس الدولة 1945م تم تأسيس مجلس الدولة سنة 1945م على غرار مجلس الدولة الفرنسي وهو أحد الأعمدة الثلاث التي تشكل السلطة القضائية في مصر مع (المحكمة الدستورية العليا، محكمة النقض، مجلس الدولة). أنشئ المجلس عام 1946م على غرار مجلس الدولة الفرنسي، والقانون الحاكم له الآن هو القانون رقم 47 لسنة 1972. وقد تأسست لغته القانونية بناء على الجهود اللغوية السابقة على تأسيسه وبناء على جهود المترجمين الذي نقلوا قوانينه وتنظيماته عن الفرنسية، وعلى السادة القضاة الكبار الذين تولوا رئاسته ورئاسة محاكمه وقطاعاته القضائية المتعددة وعلى جهود أعضائه من القضاة العظام.
ولا يخفى أهمية اللغة القانونية في مجلس الدولة وأقسامه الثلاثة: القسم القضائي وقسم الفتوى وقسم التشريع، وهي لا تقل أهمية عن اللغة القانونية في الجهازين القضائي المدني والدستوري، فهو يشرع، وهو يفصل في منازعات دقيقة صيغت بلغة قانونية محكمة وهي لغة اللوائح.. والقرارات الإدارية الجمعية والمفردة، إضافة إلى لغة العقود الإدارية وهي من الأهمية بمكان، ثم سائر اللغات القانونية الأخرى التي يختص المجلس بالفصل في منازعتها الإدارية، تلك التي تثور بين الأفراد والجهات الحاكمة في الدولة باعتبارها سلطة عامة، ويقوم المجلس بفحص الدعاوى وإلغاء القرارات الصادرة من الإدارة فيها بحكم قضائي، وهو ما يلزمه قواعد لغوية قانونية سواء أكانت قواعد بنائية أو دلالية، فضلا عن عماله الاستشارية الأخرى….، ولا ننسى العقود الإدارية ونظامها اللغوي البنائي والدلالي ولما لمجلس الدولة فيه من الجهود العظيمة.
والحاصل: أن ازدهارا لغويا طال الحياة العامة سياسيا وثقافيا…. وطال مؤسساتها الإدارية كافة، ومؤسساتها القانونية والقضائية على وجه الخصوص، بفعل العوامل الكثيرة على ما سبق إيراده، وبهذا يمكننا تصور الحالة اللغوية في تلك الحقبة بأنها حقبة أطبقت فيها القوانين الوضعية بتنظيماتها وبلغتها على كل القوانين والتنظيمات خلا قوانين الأحوال الشخصية، وغدت الشريعة الإسلامية مجرد مصدر رئيس من مصادر التشريع لا الأحكام. وغدت اللغة الأصولية واللغة القانونية معا في أوج عصريهما؛ فكانت تلك هي حقبة القوة اللغوية البنائية للتشريعات بالاستمداد المباشر من علوم اللغة العربية وقواعدها، وحقبة القوة الدلالية بالاستمداد المباشر من القواعد الأصولية اللغوية.
وفي هذا الحقبة كانت القواعد الأصولية اللغوية، وقواعد اللغة العربية عامة أداة القانون والقضاء قائمة فاعلة في الفهم والتفسير واستخلاص الأحكام واستنباطها من النصوص، وهي أداتهم في صياغة ونظم النصوص القانونية والأحكام واللوائح والعقود والقرارات… وبعامة كانت لغة التفاعل والتداول القضائي العمل القانوني. بفعل العوامل سابقة الذكر وعلى رأسها الترجمة والتعريب، وازدهار العمل الحزبي والسياسي وانتشار الصحافة، وشيوع في لغة الإدارة والعلوم وبفعل ترسخها في المناهج ومعاصرة جلة القضاة ورجال القانون لحقبة المحاكم الشرعية، وخلوفهم آخرين في قوتهم وتمكنهم.
إضافة إلى قيام الأزهر الشريف بأدواره في تعليم الشريعة واللغة والأصول والمنطق وما قامت به دار العلوم منذ تأسيسها في ذلك، فهي والأزهر قاما بدور هائل في الحفاظ على اللغة العربية عموما وعلى التكوين اللغوي والتمكين المهاري للشرعيين واللغويين العظام فهذا الشيخ على حسب الله والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف وغيرهم الكثيرون. وسنأتي على جهود هؤلاء الأصوليون العظام في تعزيز لغتي الأصول والقانون وفي الحفاظ عليها.