أحوال الإنسان في رحلة الحياة (3)

من تراب الطريق (1053)

أحوال الإنسان في رحلة الحياة (3)

نشر بجريدة المال الخميس 4/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ما طفت به من أحوال الإنسان ـ يجعلنا نتأمل فيما نسميه ثقتنا بأنفسنا.. هذه الثقة هل هي موجودة حقيقة !.. وهل لها أساس مكين واضح لدى كل منا في ذاته أو في أناه أو في عقلــه أو في شهوته وجشعه ؟! لا ندرى.. ولكن تمر على كل منا حتمًا أوانات أو أحوال أو أحيان يتوجب عليه فيها.. هو وحده.. أن يتخذ قرارًا خاصًا لنفسه.. إما خوفًا يدفع به ضررًا أو خطرًا في ظنه، وإما تصميمًا ينفرد به لمسلك يختاره هو رآه أنه وحده اللائق به..

واستعمالنا لعبارة الثقة بالنفس، يغرى الكثيرين منا لاستعمالها في غير مكانها أو في غير موضعها المناسب !

والأغلبية الغالبة من الناس ـ لا تستعمل في أغلب أيام صحوها ونومها هذه الثقة بالنفس ولا تذكرها، وإنما تستخدم العادات السائدة في محيطها معظم عمرها.. لا تفارقها إلا لاختيار عادات أخرى متبعة عند آخرين وباتت توافق حالها الجديدة.. فنحن يقلد بعضنا بعضًا دون أن يشعر.. حتى في الحركات البدنية.. فثقة كل منا بنفسه حدث طارئ عليه يتصيده ويتزيده ويتزين به لنفسه نقلا عن غيرٍ رآه أو سمع عنه أو وصف له. وهذه الثقة كما قد تكون حسنة نافعة لصاحبها في موضعها، قد تكون ضارة به وبمن يتصل به إن زادته في الغرور والقسوة أو العناد وصلابة الرأي !

وما يكون معنا من المشاعر والخواطر في كل لحظة، أكثر بكثير مما ننتبه إليه.. لأننا ننتبه فقط لما نراه مهمًا لنا أو لافتًا لنظرنا في وقت حصوله، وتسجل الذاكرة هذا الالتفات أو ذاك فيمكن أن نعيده أو نستعيده مرات.. وكل آدمي مشغول عادة بمشاغله هو على مقدار اهتمامه بها ويقظته لها.. ولا يلتقط في ذاكرته إلاّ نتفاً تخصه بكيفية أو بأخرى من البحر الضخم المتعرض لحواسه في يومه وغده.. وبالغًا ما بلغته فطنة أى آدمي من اليقظة والحفظ، فإنه لا يستطيع أن يمسك بجميع ما يجرى حوله دائمًا أو غالبًا.. لأننا منذ البداية إلى النهاية كنا أولاً وسنبقى أفرادًا نلتقي ونتفرق.. قد نكمل بعض هذا النقص إلى حد يصغر أو يكبر بالاتصال المتبادل بيننا، لكن يستحيل أن يبلغ الكمال !

هذه الأحوال البشرية الدائرة أو المتراوحة بين الثقة بالنفس، والتيه والغرور، والقسوة والفساد ـ لا محل لها حين تمتلئ حنايا المؤمن بالطمأنينة وحلاوة الإيمان.. أمام الإيمان بالله تنزاح كل صور التضخيم المرضى للذات، ويتغلغل نسيج المؤمن طمأنينة واثقة أن عنوانه صدق عمله وإخلاصه، وأن عناية الله تبارك وتعالى ترعاه.

للأسف قد فقد الإنسان إنسانيته في عصرنا، وبتنا أقرب إلى الهلاك مما كان عليه الناس من قبل.. لأننا عن طريق الحضارة الحالية ـ قد أغرقنا في الماديات وتمسك الناس بعمق الخبث والبغض وفقدوا ثقة وطمأنينة الإيمان، وأخذوا يتلهفون علانية أو خفية على امتلاك وسائل الدمار الشامل بحجة المحافظة على الكيان.. وهي وسائل دمرت قبل كل شيء إنسانية من فكر فيها ثم من نجح في اختراع ما اخترع منها ثم من أمر بصنعها ومن قام بصنعها ومن تدرب ودرب على استعمالها ومن خزنها وصانها ومن قام فعلا باستعمالها !

وانضم اليوم إلى هؤلاء وأولاء من استطاع من الجماعات أن يحصل على هذه الأسلحة ويركن إليها ويتزود بها.. يتذرع المتذرعون بالأسباب لحيازة هذه المهلكات قنوطًا ويأسًا من الأمان والسلام بدونها.. وبالغًا ما بلغ الإنفاق على إنتاجها وما يؤدى إليه من الضغط والتضييق على حاجات الخلق الإنسانية الضرورية !!

والتجاء الجماعات إلى وسائل الدمار الشامل، فكرة طارئة على الذهن البشرى.. استساغها أو أساغها للرغبة في العثور على وسيلة بالغة الخطورة تمكن صاحبها من تهديد وإرهاب الغير.. تضمن حتمًا خضوعه وتسليمه لصاحب هذه الوسيلة الشيطانية المنفرد بها!.. ومع ذلك فإن أصحاب ترسانات الدمار الشامل لم ينعموا بالانفراد بها طويلاً.. فقد سرقت أو تسربت إلى جماعات أخرى حرصت على تنميتها وتبارت هي الأخرى في هذه التنمية التي دخلت سباقًا محمومًا تتسابق فيه الدول كبيرها وصغيرها، ويسعى الكبير لقصر احتيازها عليه حتى يتحكم وحده في أقدار العالم!.. انتشرت وسائل الدمار الشامل هنا وهناك في شتى أنحاء العالم.. وحازتها الأفراد.. وباتت في أيدى الكثير من فئات جماعات الإرهاب التي يشكو منها الكل وخرجت عن سيطرة الجميع !.. وراء ذلك كله تعمل الأنانية المتضخمة باستمرار عملها المهلك بنجاح ودون مبالاة.. لأننا دون أن نلتفت تسربت الأنانية إلى كل منا حتى غلبت البقية الباقية من الإنسانية فينا، وصارت الأنا في الآدمي أسبق من الإنسان! سبحانه وتعالى القائل في قرآنه المجيد: « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا » (الشمس 7 ـ 10).

زر الذهاب إلى الأعلى