آفة العناد، وطريق الحق (2)

من تراب الطريق (1025)

آفة العناد، وطريق الحق (2)

نشر بجريدة المال الأحد 24/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

والاستدلال على صحة المقدمات بنتائجها الملحوظة لا يكون قاطعًا كليًا إلاّ في حالة مراقبة العقل وإحاطته التامة بكل واقع تلك المقدمات ثم ملاحظته الدقيقة الصحيحة للنتائج وربطنا عقليا هذه بتلك. أما غياب عامل آخر متصور للناتج عن وعينا وعقلنا باستمرار وبلا تخلف ملاحظ من جانبنا واستبعادنا لوجوده كسبب لقيامه هو، فتلك خطوة بشرية اعتادتها عقولنا في معاملاتنا بعضنا مع بعض في وقائع دنيانا.. ولذا احتجنا للإذعان للغيب الذي يتجاوز حتما أبعاد دنيا الآدمي، عوضا عن الاحتكام إلى نشاطات وعينا وعقلنا وفهمنا.. فجعلنا الغيب الذي لم يبد لنا ما كذبه أو يكذبه، في حكم البديهي الذي لم نتعود رؤية خلافه نحن ولا من قبلنا ولا من سيأتي من بعدنا.

وما يبدو بديهيا بالنسبة للبشر لم يخرج عن كونه كذلك بالنسبة لهم كنشاط آدمي من إحدى وظائف حياة الإنسان.. فمقاييسنا البشرية صحيحة صحة نسبية قابلة دائما للتصحيح والتعديل وإعادة النظر والمراجعة.. لأنها دائما مقاييس بالنسبة للنظام المعمول فيه بهذه المقاييس التي لا يمكن أن تحيل إحالة معتبرة إلاّ عليه هو بذاته.. فلا يمكن أن نحاسب الكون الهائل ببديهياتنا البشرية التي كثيرًا ما لا يشاركنا فيها الكون!

وعقلنا يعرف منذ القدم غير المحدود بمعنى الذي لا يعرف آخره أو نهايته في الكبر أو الصغر أو الامتداد أو الحجم أو الطول أو القصر أو القوة أو الضعف أو القدم أو الجدة أو الثقل أو الخفة أي النهايات الممكنة في تلك المقادير والأوصاف والأوزان والمقاييس وأمثالها مما يتداخل الفكر فيه مع الخيال والخيال مع الفكر.. لأن الآدمي لا يقف حتما عند حدود ما يحسه وتحيط به حواسه وتعيّنه له إدراكاته، بل يمدها خياله بعض المَدّ ثم يبقى الباب مفتوحا لخيال من يريد.. فلفظة «غير» المضافة إلى كلمة المحدود ـــ هي هذا الباب المفتوح في استعمال العاديين من البشر للتعبير عمّا تجاوز مقدورهم المألوف في العد والقياس والوزن والتقدير والحساب.. وهم بذلك ينفضون أيديهم من حساب بعد السماء وسعة الأرض وسرعات الرياح ومياه البحار وعدد الأرواح والأحياء وكمية النجوم والكواكب والأفلاك وقدم الأزل وطول الأبد وما شابه ذلك.. لأن حدود محدودية البشر ترسمها بالحتم حواسهم ومشاعرهم وذاكرتهم، وهي حدود دائما وبالضرورة نسبية بنت وقتها وعصرها غير عينية ولا كونية.

والعلم الوضعي حاول ويحاول وسيظل يحاول الخروج بالبشر من تلك النظرة الساذجة البدائية بالاتفاق بين أهل العلم والعمل على رموز بعينها للقياسات والأوزان والأحجام والطاقات والعناصر والذرات والجزئيات والبلورات وتحديد معان منضبطة متعارف عليها وحدها في دوائر العلم والأحمال للأجناس والأنواع والأصول والفروع والعائلات والأعضاء والأجزاء وأجزائهـا.. وهذه وغيرها كلها تحديدات بشرية لا يعرفها الكون، ولكن موضوعاتها فروق بين تكوينات ذلك الكون العظيم.. احتاج البشر إلى التعرف عليها وتسميتها بمسميات بشرية للانتفاع بها في مساعيهم.. بحيث إذا اندثر الآدميون لم يعد لتلك القياسات والرموز والمصطلحات والتحذيرات أي وجود.. لأنها من ابتكار البشر لخدمة البشر في استعمال ما قد يتيسر لهم استعماله من ذلك الكون بشيء من النظام والاعتياد والتطور والترقي في الانتفاع.. فالاندثار هو أفدح الأخطار على البشر.. ومن ثم يجب أن يكون موضوع التفاتنا الأول والأهم للتحرز منه والعمل الدائب على تفاديه واستبعاده.

والآدميون في نظر العلم الوضعي أحدث الحيوانات العليا وجودًا على هذه الأرض.. وقد سبقهم أجناس وأنواع انقرض منها الكثير وباق منها الكثير بين ظهرانينا.. هذا الباقي من تلك الأجناس قد عانى ويعاني خلال الأزمنة المتوالية والأمكنة المختلفة تطورًا بطيئًا أو سريعًا تبعا للظروف والأحوال.. والاندثار أو الانقراض قسيم إيجاد الموجود في حدود معارفنا.. كما أن موت الأفراد قسيم إيجادهم، وهذا حدث لم يتخلف قط في صدد أي حيّ من المخلوقات في أي زمان وأي مكان لأن تلازم الحياة والموت فيما يبدو قانون كوني.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى