حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (6)

من تراب الطريق (1041)

حول « الأنا »ما بداخلها وما حولها (6)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 16/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نحن لا نربى أنفسنا تربية سليمة إلاّ نادرًا جدًّا.. يشيع ذلك في عصرنا هذا برغم وفرة التعليم والتعلم والقدرة الهائلة على التعمق في التحليل والتركيب وفخامة العمران واتساع الاقتصاد حتى صار عالميًا ! فهذه المعالم التي تبدو هائلة ينقصها بل يسقطها عدم المحافظة الواعية المستمرة الجادة على الاتزان والأمانة.. وهما ركنا التربية الاجتماعية السليمة في أي زمان.. بدونهما يستحيل أن يبقى أي مجتمع بشرى متماسكًا ثابت الخصائص والعادات والأجيال لدى أهله على الأقل ـــ لأي عصر.. والعصور مقاسات الحياة للقبائل والشعوب والأمم والدول كبيرة وصغيرة إلى يومنا هذا.. فهل هذا نهاية لنا ليس بعدها بعد ؟! أم هو تمهيد يبدو في نظرنا طويلاً ـــ لمن كان في آدميته أكثر نضجًا وعمقًا وابتعادًا عن تلك التقاسيم والفروق والأبعاد والعقائد القديمة بما حملته وتحمله اليوم من الغيرة والنفور والحقد والطمع والخداع والانتهاز ؟!

ضاقت صدورنا من زمن ـــ مما نراه ونسمعه ونقرؤه ونردده ويردده معنا آخرون..

بل ضاقت صدورنا بما نكتبه نحن وما نذيعه، كما تضيق صدورنا بما يكتبه ويذيعه الآخرون.. ولا يمنعنا ضيقنا من ترديده قولاً أو كتابة.. فلم نعرف منذ الصغر أن الآدمي عليه أن يقول بصراحة ما عرفه كواقع ولا يمكنه أن يقول غيره مما سمعه من كبير في نظره أو غير كبير.. ضاقت صدورنا لأننا في جيلنا وفي الأجيال القريبة في هذا القرن الماضي والقرن السابق عليه، قد غصنا ـــ دون أن ندرك ـــ في السطحية إلى الأعماق ـــ احتفاءً وزهوًا وانبهارًا بالعلوم الوضعية وما غيرته وتغيره في دنيانا كما تصورناها خارجًا يبرق وظاهرًا دائم اللمعان والإشراق.. لكن خلال ذلك لاقت البشرية حروبًا ضارية مليئة بالمآسي والأحزان والغفلة والحمق والجوع.. أهمها حربان عالميتان، إحداهما في أوائل القرن الماضي، والثانية في منتصفه.. أطفأتا تمامًا اللمعان والبريق والزهو والكبرياء والغطرسة لدى جميع الشعوب، فطارت الحماسة أو الاعتزاز بوضعية العلم برغم استمراره وتقدمه وتطوره بغير توقف خاصة للتسليح والصناعة والاقتصاد والزراعة والطب لزوم الجماعات الكبيرة المتقدمة الآن.. وهذا الاحتكار الخاص الصامت من هذه الرياسات ضم إلى حضانته هو وضعية العلم بفروعها ـــ عالمها ومعلمها ومتعلمها، فقطع كل اتصال جاد بين العلوم الوضعية والمشتغلين بها، وبين الناس العاديين الذين يشترون إلى اليوم إما مكابدات ومشقات الحياة، وإما أعاجيبها وسخافاتها وحماقاتها.. هكذا أفلتت وضعية العلم الوضعي من احتضان واغتباط الجمهور العادي بها واعتزازه بظهور كل أوائلها على أيدى أبناء العامة، وليس عن إرادة وجهد السادة الأغنياء !.. أفلتت هذه الوضعية إلى أحضان هؤلاء الأقوياء.. هم وحدهم الذين يوجهون إلى ما يريدونه ويفضلونه.. هؤلاء الأفذاذ في العلم النابغون من العامة من أي بلد يمكن أن تعززهم وتقدمهم أو يقدمون هم أنفسهم لذات الغرض والمصير مقابل الجزاء المغرى.. وباتت العلوم الوضعية بدرجاتها من أقصاها إلى أدناها ـــ الآن وإلى الغد ومن قبل إلى مائة عام سابقة أو أكثر ـــ مهناً فقط من الزاوية التجارية والمهنية، ولم تكن قط في ذاتها نشاطاً اجتماعيا صرفا ترفع من أجله الرايات وتعقد للاشتراك فيه الاجتماعات والندوات لعموم الناس . وقد بلغ التخصص والتحديد في العلوم الوضعية ما لا حد له، وانحصر نطاق علم العالم في علمه المحدود في عمقه وفي الزيادة في ذلك العمق.. فلم يعد للآدمي العادي مدخل إلى الأخذ الجدى من ثروة هذا العالم أو ذاك . لأنه قلما يتبرع لسواد الناس !! فالهوة باتت عميقة جدًّا بين إدراك الإنسان العادي وبين الغارق في أعماق ما يشغله من الجزء الذي يبحثه صباح مساء . إذ المهم هو أن يعمل صاحب العلم الوضعي بعمله إلى ما يرضى غايات مخدومه المطلوبة منه ومنهم، وذلك من الناتج الفعلي الذي يستطيع المخدوم أن ينتفع به هو انتفاعًا مجزيًا.. فأغلب العلم الوضعي بأسره قد صار من هذه الناحية خادمًا لأغراض الحكومات والشركات وأصحاب الأعمال والأموال التي تستخدمه لا يتجاوزها.. فهو مقيد بالمطلوب منه دائمًا إن أراد الحفاظ على نصيبه المنتظم من المال الذي يوجه إليه.. فالذين في القمم وعلى الرؤوس ولديهم الكلمة الأخيرة في المنع والعطاء دائمًا قلة إلى اليوم والغد ـــ غير اتباعهم جميعًا.. سواء من أهل العلم والمعرفة الوضعية، أو من أهل العلم والمعرفة الأدبية والفنية، أو من أهل المعرفة الدينية، أو غير هؤلاء من الملايين أو آلاف الملايين من العاديين الذين قد يضحكون أحيانًا ويلعبون، وغالبًا ما يُطحنون ولا يُذّكرون قط !!

فهل تنتهى هذه الجبال العالية ومعها ينتهى باقي البشرية المسكين المعرض إما للخضوع والإذعان والطاعة، وإما للهياج والتمرد ثم الهلاك ويطوى الملف كله رئاسة ورعية ؟ أم يجئ الأوان لانتهـاء الرياسـات والزعامـات والقيادات ليحل محلها اعتراف الجميع بقيمة الأخوة الإنسانية والزمالة المخلصة الصادقة واتساع فهمها ونطاقها الشامل لعموم للبشرية ؟!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى