نعمة الخيال

نعمة الخيال

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 28/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من يراقب صفات وأحوال الإنسان وسائر الأحياء، يلاحظ أن أميز ما مُيَّزَ به الإنسان

ــــ إلى جوار العقل ــــ ملكة الخيال.. فإذا كان لبعض الخلائق قدرٌ ما من العقل، ولو ضئيل، إلاَّ أن ملكة الخيال خاصية إنسانية صرف لم يمنحها الله عز وجل لغير الإنسان…

والإنسان لا يتخلى عن الخيال في أية لحظة من حياته.. يقظا كان أو نائما.. ذلك أن الإنسان لا يستغنى قط عن الوعى، والوعى لا يستغنى عن الإدراك البشرى، والمركبة الأولى والأخيرة لهذا الإدراك ولما يصحبه من تفصيلات وأحكام واحتمالات ـ هي الخيال الذي يزودنا باستمرار بالصور والعلاقات التي لا حصر لها، والتي منها نسيج وعى حياة كل منا.. صغيرًا كان أو كبيرا.. جاهلاً أو عارفًا.. بدائيًا أو متحضرًا . ونحن لا نستطيع أن نرى تلك الصور والعلاقات والأحكام والاحتمالات ـ إلاَّ عن طريق ما يرسمه خيالنا لوعينا .

ونحن في حال اليقظة نرتب عادةً على ما نراه وندركه أن ما معنا واقع، مع جواز أن يتبين لنا فيما بعد أننا أخطأنا النظر، ووقعنا في وهم أو خطأ .

وعكس ذلك يكون اعتقادنا لما نراه في النوم من الرؤى والأحلام.. فالغالب ألا نحفل به . ولكن قد نعتقد أحيانا أن رؤيةً ما في النوم، تنطوي على إشارة رمزية سرية تحتاج إلى تفسير، وتشير إلى واقع سيحدث . بل وهناك من يعتقدون أن بعض ما يرونه في النوم يتحقق برمته في الواقع .

والخيال يسعف الآدمي لكي يعي ويدرك ما يمكنه وعيه وإدراكه بنجاح ليمارس حياته ـ يسعفه بألفاظ اللغة والمصطلحات المتعارف عليها وبالأرقام والرموز المتداولة ليمسك بعلاقة أو علاقات مجدية، وعلى جانب من الصحة يستخدمها خيال الآدمي في رسم الصورة التي تتوالى مرئية أو مسموعة على لوحة وعيه بلا انقطاع، وتستجيب لها أفعاله وردود فعله وفهمه للعالم الخارجي، فهمًا يحقق تعايشه معه وفيه بقدر معقول، وعلى ما وصلت إليه علومنا الوضعية وفنوننا وصناعاتنا.. وما إلى ذلك حتى الآن نسيجٌ بالغ الكثافة والسعة من تلك الألفاظ والمصطلحات والأرقام والرموز.. ييسر لخيالنا ووعينا الإمساك بتلك العلاقات المجدية التي تربطنا بالعالم الخارجي ونواميسه غير البشرية .

والبشر عادة لا يلتفتون إلى الدور الرئيسي للخيال في حياة كل منهم، وفي حياة جماعاتهم وجنسهم . ونحن لا نكاد نعرف أنه هو الذي يهيئ ويصور كل ما نشعر ونحس به.. وكل ما نعيه أو نفعله ـ وراءه حتمًا خيالنا بصوره في وعينا.. وهذا الخيال هو الذي يعطى الشكل والملمس والطعم والرائحة واللون لكل ما نرغبه ونحبه أو نرفضه وننفر منه.. وهو الذي يثير بما يصوره لنا ـ أنواع ودرجات الخوف والفزع والتشاؤم واليأس، وكذا أنواع ودرجات البهجة والارتياح والتفاؤل والأمل والأمان .

ولو توقف خيال الآدمي عن عمله لتوقف عمل وعيه، ولو فقد قدرته على التخيل كلية لفقد الآدمي حتما شعوره بذاته وحياته كلها وصار في عداد الأموات وإن كان جسمه فيه حياة.. فهذه الحياة ـ في هذه الحالة ـ حياة تائهة ليس لها عنوان وليس لها صاحب يشعر بها.. لأن ارتباط الخيال بالذاكرة ارتباط حتمي لا انفكاك له إلاَّ مع فقد الحياة الواعية.. إذ لا تسجل الذاكرة الحية ولا تستحضر إلاَّ ما زودتها به المخيلة التي تنتمي إلى ذات الآدمي وتصب ذكرياتها في وعيه ابتداء وانتهاء من لحظة التسجيل.. صغيرًا كان الآدمي أو كبيرًا.. بدائيًا أو متطورًا . لأن كل ما تسجله الذاكرة تشارك فيه المخيلة.. سيان أن يكون شكلاً أو رسمًا أو لغة تُقال أو تكتب أو اصطلاحًا أو رقمًا أو علامةً أو رمزًا ـ وذلك بصورته القابلة للتصور والإدراك لدى عموم الآدميين .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى